الربّ يسوع في الموعظة على الجبل (متى الاصحاحات ٥-٦-٧) وضع للحياة الروحية عامة ثلاثة ركائز أساسية: الصلاة، الصوم، العطاء. إستناداً عليها نجد تحت عنوان مقالنا فكرتين أساسيتين:
١- الصوم
۲- الحياة الروحية للأولاد: في الصلاة، في الصوم (هل يصومون، متى وكيف؟)، في العطاء.
١- الصوم
ما هو الصوم؟ هو فرصة للعودة إلى الذات ومصالحتها، إلى الآخر وإلى الله. هو الإمتناع عن كلّ شيء من مآكل وشراب لكي ينقطع الإنسان إلى ربّه، التفرّغ لله. هو الطعام اليومي للحياة الروحية. هو تدريب للإنسان كي يسيطر على ذاته، أي على غضبه وشهواته، فضبط شهوة الطعام مثلاً هو تصحيح “للأنا” في ذاته، الأنانيّة تفصل الإنسان عن الله والقريب، المؤمن حين يصوم يقول “لا” لإرادته البشريّة، يتحرّر من قيود الأنانيّة ويتوجّه من الذات إلى القريب إلى الله، هذه الطريقة تفسح له المجال أن يدخل ميدان الفضائل.
هل هو وصية؟ الصوم هو الوصية الأولى التي أعطاها الربّ الإله لآدم وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: “من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت” (تكوين2: 16) وأوصى به أهل نينوى:”نَادُوا بِصَوْمٍ”(1 ملوك 21: 6-13). الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، مليء بسيرٍ عن الصوم، البشر مارسوا الصوم عبر الأجيال لأسباب متعدّدة وكان ذلك عملا مرضي لله.
كيف نصوم؟ من جهة الممارسات، الصوم بشكله الحالي (الإنقطاع عن الزفرين والمدّة الزمنية المُرافقة له) كما رتّبته الكنيسة هو نتيجة خبرات روحية عبر العصور، المُستندة إلى كلام الربّ، وترجم الآباء القديسون خبراتهم بتعاليم روحية، يقول القدّيس باسيليوس الكبير: “الصوم هو مثل طير له جناحان: الصلاة والرحمة، لا يستطيع أن يطير وأن يحلّق بدون جناحيه”. من خلال هذا القول نجد أنّ الصوم ليس عملاً فموياً وحسب، وليس عادة تسلمناها من أسلافنا، بل ممارسة تقوية بوعي وقناعة وإلتزام بتدابير وأنظمة وضعها قديسون تألّهوا من خلال حياتهم الروحية ونحن معهم نصير أعضاء أحياء في جسد الكنيسة الحي بالفضائل المنعمة علينا من الله.
٢- الحياة الروحية للأولاد
– في الصلاة
– في الصوم (هل يصومون، متى وكيف؟)
– في العطاء
الحياة الروحية للأولاد، الحياة الروحية في المسيحية هي الحياة في الروح القدوس، والذي يقتنيه يُسَمّى إنساناً روحياً “لأن كلّ الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم ابناء الله” (رومية14:8) للأولاد خبرتهم الروحيّة الخاصة الحميميّة مع الله، وعموماً التدريب العمليّ الأول للحياة الروحيّة، ينطلق من البيت (العائلة الكنيسة) كونها عملية ثلاثيّة الأُسس الأنا، الآخر والله. واما يسوع في الثانية عشرة بحسب لوقا الإنجيلي فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لوقا 52:2).
الأولاد وحياتهم الروحية من الناحية الكتابيّة، من الناحية القانونيّة الكنسيّة، من الناحية التربوية والعلميّة.
من الناحية الكتابيّة، قال الربّ يسوع: “دعوا الاولاد يأتون اليّ ولا تمنعوهم لان لمثل هؤلاء ملكوت السموات” (متى14:19) هذه الآية لا تخصّ الأطفال وحسب، بل هي دعوة من الربّ لكلّ من استسلم بثقة لمشيئة الله بالكامل، الأولاد هم الذين يضعون ملء رجائهم على أبيهم، وبدونه لا يستطيعون فعل أي شيء، فلمثل هؤلاء ملكوت السموات، بالنسبة لله لا فرق بين البشر، لا عبد ولا حرّ ولا ذكر ولا أنثى… لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع (غلاطية 28:3).
من الناحية القانونيّة الكنسيّة، بالعودة لمجموعة قوانين الكنيسة الغربية نجد أن القانون رقم 1252 يحدد العمر الواجب فيه إتباع وصية الصوم والانقطاع. يعفى من الصوم، الذين لم ينهوا السنة 21 والذين تجاوزوا السنة 60 من عمرهم وأصحاب الأشغال الشاقة العقلية والجسمية، والمرضى والحبالى والمرضعات. ويؤكد القانون 909،1-2، من مجموعة القوانين الشرقية (غير الأرثوذكس) أيضا أن الصوم للشخص الذي أتمّ الثامنة عشرة من عمره. قانونياً، لم تحدّد الكنيسة الأرثوذكسيّة عمر المؤمن الصائم، لا قانون لذلك بل تدابير لأجل صحّة الأولاد كون جسدهم وفكرهم في طور النموّ، ففي كتاب مجموعة الشرع الكنسي، منشورات النور ص 909 نجد قوانين القديس ثيموثاوس الإسكندري وهي 18 جواباً على 17 سؤالاً. ففي السؤال الثامن والسؤال العاشر، يُؤذن للمريض ولهزيل الجسم أن يتناول الطعام والشراب، وينبغي للمرأة في حال ولادتها أن تأكل وتشرب لكي تستطيع التغلّب على ضعف جسدها.
من الناحية التربوية والعلميّة، لا فرق بين الراشد والجنين سوى بخبرة الحياة من جهة جميع الأبعاد الإنسانية (الجسدية، الفكرية، الروحية والعاطفية). لا مجال للتوسّع في تفاصيل كيفيّة التعاطي مع الأولاد بحسب خصائص أعمارهم وإستثناءاتها، سنحاول فقط إيضاح أهميّة الحياة الروحية للأولاد التي بإمكانهم ممارستها بتدرّج بالصلاة والصوم والعطاء بشكل عمليّ.
نذكر مثلاً علميّاً عن الجنين لكي نُبرز طاقاته البشريّة الكاملة. فالجنين في رحم أمّه يصمّ أذنيه حين يسمع صراخاً من الخارج. واختبارات الحياة المُشتركة المُذهلة التي يعيشها التوائم في رحم أمّهم، أكبر أدلّة لسهولة التواصل البشريّ. يشعر الأجنّة بكافة مشاعر الأم، فهم حتماً يشاركون صلاة أمّهم الصائمة ولو اضطرت لأجلهم أن تتناول بعض الوجبات، وأن تأكل قبل الثانية عشرة. إذاً فمن الرحم تستطيع الأمّ أن تكون مُرشدةً إلى الربّ الإله ومن هناك يتدرّب الأولاد على كافة الممارسات الليتورجية. وعلى مرّ الأيام غالباً ما يتعلّمون الكثير من الممارسات بتقليدهم الأكبر منهم سنّاً والراشدين. فعلينا أن نكون أهلاً لأمانة الربّ، لئلا يكتسبوا خطايانا، القديس يوحنا الذهبي الفم يقول:”يجب أن تؤدِّبُوا أولادَكُم فيما تُؤدِّبُونَ ذَواتِكُم لتخلصوا أنتم وهم معا وتنالوا ملكوت السموات بيسوعَ المسيحِ ربِّنَا”.
الأولاد وحياتهم الروحية: في الصلاة، في الصوم (هل يصومون، متى وكيف؟)، في العطاء.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “اذا كانت تربية الاولاد من خلال اقتناء عادات صالحة، فصعبٌ عليهم أن يَمِيلُوا الى الشرور متى صاروا بالغين، لأن نفوس الأطفال كالثوب الساطع البياض الذي إذا صُبغَ بلونٍ ما ثبت اللونُ عليه”.
– في الصلاة، قال لهم يسوع:”أما قرأتم قط من افواه الاطفال والرضّع هيأت تسبيحا (مت 21: 16)
– في الصوم، (هل يصومون، متى وكيف؟) “نَادَيْتُ هُنَاكَ بِصَوْمٍ عَلَى نَهْرِ أَهْوَا لِكَيْ نَتَذَلَّلَ أَمَامَ إِلهِنَا لِنَطْلُبَ مِنْهُ طَرِيقًا مُسْتَقِيمَةً لَنَا وَلأَطْفَالِنَا” (عزرا 8: 21) إقتناءً للعادات الصالحة (الصوم والصلاة والعطاء)، وللسير في الطريق المستقيم نحن وأولادنا، رتّبت الكنيسة الأرثوذكسيّة المقدّسة أصواماً على مدار السنة الطقسيّة، الصوم الكبير، الميلاد، الرسل، السيدة، الأربعاء والجمعة من كل أسبوع، بالإضافة إلى أصوام لأعياد هامة كعيد رفع الصليب… ونظام الأصوام هذه مكثّف بصلوات وتراتيل وعظات تحثّ المؤمن على التوبة والعطاء والمحبة… ويضاف إلى ذلك الأصوام الخاصة التي يقررها كل شخص ليصومها بإشراف أب روحي من أجل هدف معين خاص به. وبحسب الإحصاءات فإنّ أيّام الأصوام في الكنيسة الارثوذكسية، تتخطى أكثر من نصف عدد أيام السنة، هذا لكي يبقى المؤمن – مهما كان عمره – بحالة تأهّب دائم للربّ ولوصاياه الإلهية.
الأولاد حتماً يصومون، “واعلموا أن الرب يستجيب لصلواتكم إن واظبتم على الصوم والصلوات أمام الرب” (سفر يهوديت 4: 12) يصوم الأولاد مع الراشدين على حدّ سواء، فالأولاد أبناء الله مثل أيّ مؤمن وسبق وذكرنا أنّ لا فرق بيننا وبينهم سوى بخبرة الحياة، ما علينا فعله هو الحفاظ على نقل بشارة الربّ إلى أولادنا بطرق تربويّة تتناسب وعمرهم وكما يتدّرج الأهل بنوعية الأطعمة لأطفالهم من الحليب إلى الأرز إلى اللحوم بحكمة ودراية، هكذا يمكنهم تدريب أولادهم على الحياة الروحية، وكما يدرّب الأهل أولادهم على الدبدبة، ثمّ على المشي بخطوات بطيئة وصبر، هكذا يستطيع الأهل روحيّاً تدريب أولادهم على الصوم. حين يعبّر الأولاد عن إرادتهم بالصوم قد يُجاوبون بالرفض أو الإستهزاء بهم وبصغر سنّهم… أو بتحريف تعاليم الكنيسة بمزاجية مؤذية، فيُنصحون بحرمان النفس مما يحبّون كالشوكولا…، أن يصوم عن الكذب وما شابه… فيجيب الرسول بولس “أيها الآباء لا تغيضوا اولادكم لئلا يفشلوا”. (كولوسي 21:3)، وينصح أبناء الكنيسة أن يطيعوا آباءهم أي آباء الكنيسة قائلاً: “اطيعوا آباءكم لانكم بهذا ترضون الرب” (كولوسي3: 20-21)
كيف يصومون؟ هناك طرق عمليّة بسيطة:
1- إن أردنا تشجيع الأولاد بكلمات سهلة: يمكننا أن نشبّه موضوع الصوم بالرياضة.
*الرياضة هي الاستعداد لمباراة هامة، الصوم هو الاستعداد لفرح العيد.
*الرياضة ليست قمعاً للجسد بل تدريباً، الصوم ليس قمعاً للجسد بل تهذيباً.
*الرياضة للمحافظة على اللياقة نمارسها يومياً او اسبوعيا، الصوم للمحافظة على العلاقة مع الربّ نصوم أيام الأربعاء والجمعة.
الصوم كالرياضة إذا تمّ بفرح ونشاط، يجلب الفرح والنشاط.
2- إن أردنا تشجيع الأولاد بتصرّفات سهلة:
ممارسة صلاة اسم يسوع “يا ربّي يسوع ارحمني” أيّام الصوم.
قراءة أقلّه آية من الإنجيل كلّ يوم.
الاعتراف بذنوبنا نحن وأولادنا (بحكمة) أمام الكاهن في الكنيسة.
الإستماع إلى التراتيل.
الصوم عن الزفرين يومي الأربعاء والجمعة على مدار السنة.
الصوم قبل المناولة تهيّئاً لإقتبال الربّ، كما نتهيّاً لإستقبال ضيوفنا..
– في العطاء، جاء في سفر أشعيا النبي، فإن صومك إن لم تمسك فيه من أجل الفقير واليتيم والأرملة والغريب فهو غير مقبول عند الله. أهمّ ما في الأمر أنّ الصوم مرتبط إرتباطاً وثيقاً بالعطاء،
أمّا بالنسبة للأولاد ولنا فيمكن أن يرتبط في ذهننا أنّه – قجّة- أي إدخار المال للآخر الفقير، ويجب أن يكون من المصروف الخاص.
نعم، جسد أولادنا في طور النمو، “ولكن ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه” (متى 16: 26)، أولادنا هم أبناء الله، علينا أن نربّيهم له، لن نؤذيهم حين ندرّبهم على الحياة الروحيّة، بل نساهم في إعداد قديسين للربّ، نحن مسؤولون أمام الربّ عن صحة أولادنا الجسديّة والروحيّة، وكلّ هذا يتمّ برويّة، بجدّ، بجهدٍ وبصبرٍ وبالتزامٍ كنسيّ.
أخيرا، القديس سيرافيم ساروف يقول: “هدف الحياة المسيحية هو اقتناء الروح القدس” والرسل اقتنوه بصومهم “بَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ، قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ”(أع 13: 2). قبل الصيام تُقيم الكنيسة المقدّسة تذكاراً لطرد آدم من الفردوس لأنّه لم يحفظ الصوم فيه، إذاً نصوم عن المآكل بحسب ترتيب الكنيسة وبحسب وصايا الآباء، الصوم المُتوازي مع الصلاة والعطاء، فهذا يساعدنا على التوبة (تغيير الذهن) والرجوع الى الله والتفرّغ له.
حين نصلب ذواتنا “الأنا” الخاصة بنا مهما كانت خبرة حياتنا اي مهما كان عمرنا، يَسكب ربّ القيامة علينا سلاماً داخليّاً نشاطره مع أولادنا، علنا بصلوات وشفاعات أولادنا نسمع قول الربّ يسوع لنا: “نعمّا ايها العبد الصالح والامين.كنت امينا في القليل فاقيمك على الكثير. ادخل الى فرح سيدك”(متى 25: 23).
فاديا كعدي