يا رب ..

mjoa Monday February 20, 2012 128

يتلوى ألماً وطننا، تئن موجوعة بلدنا، جسدها ينزف مضرجاً بدماء بنيها، عيونها ملأى بالدموع وقلبها تضنيه الأوجاع، تتخبط في بحر من الدماء، تغرق في لجة من الأحزان، تثخنها الجراح وتضنيها الآلام.

ملاك الموت يهيمن على أجوائها، وخشية الفوضى تنتشر في فضائها. تمضي مشوشة خائفة قلقة، وما من مفر من جحيم الصراع إلا بك، ولا مهرب من هيجان القلاقل، ولا خلاص من فوران الدم إلا بحضورك.

أيها الرحوم: احمها من أنهار الدماء، احفظها من اضطراب العالم، احقن دماء أبنائها وهدئ غضب الشر ولطّف عنف سيد العالم.
يا رب : مدّ يمين رحمتك وكفكف الدموع من عيون الثكالى، ومآقي اليتامى فهم كثر، المِس بهدب ثوبك الجراح النازفة واشفها بعظيم محبتك، هدهد بلطفك القلوب المكلومة وعزِّها بوافر تحننك، غمّد برحمتك المنتقلين إليك من إخوتنا في الوطن، ضمد جراح ذويهم وهدئ لوعة عائلاتهم ممن يشاركونا هذا التراب.

يا فادي الكون: ارحم صوت الضارعين إليك الطالبين معونتك، لا تُمل وجهك عنا وعن بلدنا، لا تحاسبنا بعدلك بل تعطف علينا برحمتك، لا تعاقبنا حسب استحقاقنا لكن ارحمنا بمحبتك التي عهدنا، لأنك قلت : ” نقشتكم على كفي”، ووعدتنا بأن تكون معنا إلى انقضاء الدهر، وتعهدت بعدم نسياننا ” إن نسيت الأم رضيعها لا أنساكم”(أشعيا 49 : 15 – 16 ).

أعنّا نحن الذين خلـّصت، وبفدائك آمنا، أعنا لتبقى جذورنا في هذا الوطن جيلاً بعد جيل، وحقبة إثر حقبة، لا يفنيها سوس الخوف، أو تأكلها ديدان الاضطراب، فتنمو كنيستنا شجرةً قوية، وارفة الظلال، يتفيأ بظلها كل مسكين وضعيف ويحتمي بها كل لاجئ ومضطهد.

 جذورنا الأنطاكية راسخة ثابتة، سقاها آباؤنا ورواها أجدادنا في عمق تراب هذه الأرض، صنعوا فيها تاريخاً وتركوا لنا كنوزاً، وسنتبع خطاهم ونصنع لأطفالنا فيها مستقبلاً.

لن نترك الجذور بل سنسقيها نسغ قلوبنا، فمن لا جذور له لا حياة له.
لن نستهين بكنوزنا، لن ننسى تاريخنا، لن نهمل تراثنا، بل سنحميها بحدقة العين ونحفظها بشغاف الفؤاد. أنّى اتجهنا شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً، تطالعنا أسماء قرى دُعيت تيمناً بأسماء الأديرة والقديسين الذين زخرت بهم بلادنا، فهذه الغوطة لا زالت تتذكر وقع خطى رهبان أديرتها وقلاليها التي تنوف على مئة غطاها الغبار وعلاها النسيان. وإذا حولنا شطر الجنوب نجد أقدم الكنائس في العالم بناها أجدادنا، وإذا  صعدنا شمالاً يتردد في آذاننا صدى قرع أجراس الكنائس في الصحارى والجبال نسيها الزمن ولم يترك في ذاكرته في كثير من الأحيان سوى رجع الصدى يتردد هنا وهناك.

فهل نخون الأمانة؟ ونتنكر لما خلفه الآباء والأجداد.
سنخلع عنا الإنسان العتيق ونتوشح بالجديد، كي نكون جديرين بحمل اسمك، والشهادة لتعليمك، والأمانة لخلاصك الذي منحتنا إياه كي ” لا تستحي أن تدعى لنا إلهاً ” ( عب 11 : 16 ).

 قبل ملء الزمان لم يخشَ الفتية الثلاثة أتون النار، ولم يهب دانيال جب الأسود، وغيرهم واجهوا ملوكاً وطغاة، وتصدوا لوحوش مفترسة، فكم بالحري بعد اكتمال الزمان وكشف الظلال وعنصرة الروح ؟
هل نخاف نحن من في زمن العنصرة؟! هل نخشى نحن الذين في عهد النعمة؟! لم يخف من على الرجاء جاهدوا منتظرين الرب، فكم بالحري من هم في قلب الرجاء ؟
يا خالق الكون … يا رئيس السلام…

حُلّ سلامك في بلدنا، ليكن أبناؤك صانعي سلام وشهوداً للحق، أعنّا لنكون كما أردتنا : عنصر توازن وسلام، آية عدل ووئام، بيئة وفاق بين جميع الملل دون مواربة ولا محاباة.
في الأوقات العصيبة لن نخاف ونرتعد ، فربُّ العالم حل بيننا وعندنا صنع منزلاً ” إن كان الله معنا فمن علينا “.

أعطنا القوة والحكمة كي لا نكون دون المثال الذي على شبهه صورتنا. لنكن بمعونتك المعينين للعالم لا طالبي العون من أحد، لنكن برجائك الحضن لا المحضون.

فكل دمعة تسيل على الخدود تغرس نصلة في قلوبنا.
وكل نظرة حزن في العيون تشعل جمرة في نفوسنا.
وكل جرح ينزف من بني جلدتنا يفجّر الدماء من أفئدتنا.
كل صرخة ألم لموجوع في بلدنا، هي صرختنا
وكل رصاصة تصيب فرداً من وطننا تنغرس على صليبنا.

أيها الحق: أعنـّا نحن بنيك لنكون كما أوصيتنا شهوداً للحق لا للباطل…رجاؤنا عليك… ثقتنا بك.
ليبقَ الحب الذي منحتنا شعارَنا، كي يتأجج ناراً تضيء القلوب، والنور الذي هديتنا منارة نضيء به العقول  ونهدي النفوس.
يا يسوع.. يا غالب الموت .. ليحلْ سكون حضورك مكان سكون الموت، وأُنسُ محبتك محل وحشة القبور.

أنطاكيون نحن، وفي أنطاكية ” حيث دعي المسيحيون أولاً ” نلتصق بكنيستنا الأنطاكية، لن نهجر كنيستنا أو نهمل تراثنا. سنلتحم مع بعضنا البعض جسداً واحداً، ملتصقين بالرأس الحي المحيي.

نحن ورثةَ َبطرسَ وبولسَ، نحن رسلَ الكنيسة … باقون، وستبقى كنيستنا حمامة سلام، حيث تتكسر الحراب، ويتحول أزيز الرصاص لأغصان زيتون، نحن … من نحول دوي القنابل لنسائم محبة للقريب… الغريب، نحن … من نحيل نجيع الدماء إلى أردن جديد، والجراح النازفة لضماد السامري.

                                                                             ” بذلك يعظم انتصارنا بالذي أحبنا “( رومية 8 : 37 )

شدّد اللّهم الأجنحة المتكسرة، وقوِّ الركب المخلـّعة وعزِّ القلوب الحزينة.
آمين

الأخت الدكتورة ميساء بشارة.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share