يا للملاحظة الدقيقة التي عبّر لنا بها القديس يوحنا الإنجيلي عن عظمة التغيير ، الذي حل بشخص المرأة السامرية بعد لقائها بيسوع على البئر. وذلك بوصفه البديع القائل: “فتركت المرأة جرتها وعادت إلى البلدة، وأخذت تقول للناس تعالوا انظروا إنساناً كشف لي كل ما فعلت! فلعله المسيح؟”.
فماذا جرى على البئر إذن لنصل إلى تلك المعلومة؟
لقاء فريد بين يسوع الذي يمثل ذروة الكمال وبين امرأة بكونها سامرية، فإنها تنتسب إلى الجنس المهجّن من اليهود ، الذي خالف الشريعة بزواجه المختلط من أجانب ، مما أدى إلى أن يكون جنساً مكروهاً من اليهود ومنحرفاً في العقيدة والعبادة. وعلاوة على ذلك فإن هذه المرأة تحمل سمعةً سيئة حتى بين أبناء جنسها من السامريين لكثرة خطاياها. ولكن /كما هو الأمر في كثير من الأحيان / يكون اللقاء بيسوع طريق تغيير للإنسان من الداخل ، فصار البئر لهذه المرأة مشفىً روحياً تحقق عنده العلاج على أتم صورة ، يتمنى تحققها كل إنسان ، ليس الإنسان الخاطئ فقط ، بل ويتطلع إليه الإنسان السليم . فيسوع أتى ببشارة خلاص ، ورسالة فداء وعون لكل صاحب احتياج. يسوع أتى للجميع ؛ لكل الطبقات ،على شرط أن يكون الإنسان مستعداً لأن يفتح قلبه ، لتقل أذنه حسنة الإصغاء الصوت الإلهي ، ليتحرك كإنسانٍ جديد في التفاعل مع كلماته.
المرأة هذه أتت إلى البئر لتجلب ماء. فحدثها يسوع عن الماء الحي الذي يعطيه هو . إنه ماء لكل إنسان يحمل عطشاً حقيقياً لله مثل عطش جسده للماء . لنردد مع المزامير صلاتنا “كما يشتاق الأيل إلى المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله لأن نفسي عطشت إلى الإله الحي” مز 42: 1-2.
دعونا ندخل معاً إلى هذا الحوار الدافئ الذي قاده يسوع مع هذه المرأة ، التي أراد إيقاظها من غفوتها لتبتعد عن خطيئتها ، ومن ثم إيصالها إلى الإيمان بسر المسيح، خاصةً أنها ليست من الشعب اليهودي الرسمي. هكذا يفعل يسوع مع كل من يتحدث إليه ، يقوده ليعلن إيمانه الصحيح، مستفيداً من كشفه لنمط شخصيته. وهنا يبرر يسوع حواره معها بعطشه ، خاصة أن الوقت حار في منتصف الظهيرة. ولكن وراء عطش الإنسان عطش الله لاستعادة الإنسان الخاطئ. باعتبار أن الله اسمه في الكتاب المقدس “نبع الحياة” مزمور 36: 9 . وأيضاً اسمه: “ينبوع المياه الحية” إرميا 17: 13. وهكذا يستعيد الإنسان الخاطئ باعتباره إنساناً مائتاً ، لتعود الحياة إليه ، تلك التي يقدمها الله نحوه.
وقوة النص الحواري أن يسوع يقدم ذاته كمعطٍ إلهي لهذا العطاء المجاني ، الذي يدل حديث المرأة في حوارها أنّ نفسها كانت عطشة إليها حقاً. ألم نقل أنها نسيت جرتها؟ نعم إن نفسها ارتوت من ينبوع الماء الحي . ففي حديث يسوع صارت إنسانة ثانية، بفضل تحرك القوى والوظائف الروحية التي أودعها الله فينا يوم خلقنا. فإذا كان الحديث عندها ابتدأ عن ارتواء الحياة الجسدية ،فإنها اكتسبت- حقاً- ما هي بحاجةٍ إليه ، أي الجانب الآخر من احتياجاتها. فلم يعد همها الطعام أو الماء، بل الروح الذي فيها ، والذي ناشدها طالباً الطعام والماء الروحيين. وخاصة أنها لم تسمع من قبل أحاديث روحية كهذه . فالاهتمامات الجسدية طغت عليها في السابق ، لكي تصير الآن ابنة في الروح ، وأسيرةً للحب الإلهي. وكأنها كشفت الضرورة المهملة في حياتها السابقة ذات المنحى الواحد ،ليدخل إليها المنحى الآخر وهو المنحى الروحي. لقد انتمت إلى المسيح حقاً في قبولها بهذا الارتواء. صحيح أنها ربطت بين الماء المادي والماء الروحي ،سائلةً مُحاورها أن يعطيها هذا الماء لكي لا تعطش ولا تعود تجيء إلى البئر لأخذ الماء منه. ولنعلم بما علمته هي في نهاية الحوار ، أنَّ العلاقة مع يسوع لا تقود بالضرورة إلى سبل الحياة السهلة ، فليس الموضوع هكذا، إنما تقودُ إلى السبل الخلاصية للحياة. فتحديات الحياة تبقى قائمة ، إنما الجديد في الموضوع هو قدرتنا على معالجتها بصورة صحيحة. ما حدث للمرأة السامرية ينبهنا إلى أننا / في بعض الأحيان / لا ننتبه إلى الرسالة الموجهة إلينا بصورة مباشرة ، بل نحن في كثير من الأحيان نحتاج إلى الوقت المنوط بخطاب التغيير الذي يقصدنا. فيسوع أيضاً يعطينا فرصة الوقت والزمن لنجمع شتات أنفسنا ، ومن ثم نعي مقصد يسوع منا. وهذا يحدث أيضاً أثناء مخاطبة بعضنا البعض ،وخاصة إذا كان الموضوع يتعلق بالبشارة التي نتناقل الحديث عنها. لذا علينا أن ننتبه إلى من نخاطبه فنترك له الوقت الكافي لإدراك سرِّ يسوع وقبوله. وبعدها يتم إصابة الهدف. فالصنارة التي درّبنا يسوع أن نصطاد بها البشر بدلا من السمك تكون قد حققت مبتغاها. فإذا كانت الجرة هنا هي معيار دخول يسوع في حياتها ، أي صار الشأن الروحي هو الاهتمام الأول مقابل اهتمام تعبئة الماء الذي لم يتم، صار بإمكاننا القول أن هذه المرأة قد استنارت حقاً ، وصار اسمها (فوتين)أي المستنيرة ، واستطاعت أن تتحول إلى مبشرةً لأهل بلدتها سوخار ، وتُدخل الكثيرين في سر الإيمان بقبول يسوع ، لأنهم استجابوا لها، وخرجوا للقاء يسوع ودعوته وسماع كلامه.
وعلينا أن نتذكر أن هذا المجتمع السامري يرفض اليهود، كما أنَّ اليهود يرفضونه . ولكن بيسوع لم يعد هناك سامري ولا يهودي ،ولا ذكر ولا أنثى ، بل أصبح الكل واحداً في المسيح. هذه هي فكرة الله الشاملة التي أطلقها يسوع برسالته ، وصار الكثيرون واحداً بالمسيح.