ذكر القديسين بهي ومرغوب دائماً لدى الملائكة والبشر ويرفع ذهننا إلى العلاء ويجعل فكرنا يحلق فوق الأرضيات نحو السماويات ويجعلنا نرقص مع الملائكة وبالتالي نمثل أمام العرش الإلهي. لذلك نحن أيضاً نجاهد بحماس مماثل لهم لكي نحب الله ونتشبه بهم.
في الأحد الأول بعد العنصرة نعّيد لتذكار جميع القديسين، للمسيحيين الذين جاهروا بإيمانهم وذاقوا مرارة الصليب وكانت لهم مواقف نحيا بهديها حتى اليوم. والقداسة تُنال بفعل الروح، إنها عمل الروح في نفس ظمئت إلى الحقيقة. إنها سيرورة الإنسان نحو الصفاء والنقاء.
إنجيل اليوم يرسم لنا طريق القداسة كما تذكر لنا الرسالة ما فعله أناس تمكّن الإيمان من نفوسهم فقادهم إلى النضال والاستشهاد وتوجوا قديسين. منهم من قهر الممالك بالإيمان، سدوا أفواه الأسود، وهزموا جيوش الغرباء، وآخرون ” ذاقوا الهزء والجلد والقيود، رجموا ، نشروا، امتنعوا، بحد السيف ماتوا …”. كل هذا بفعل الروح القدس الذي يقوي الضعف ويهدئ، انكروا ذواتهم ولم ينكروا المسيح أو يتراجعوا عن إيمانهم، فالقداسة هي تتويج للإيمان. الذين يأتون إلى المسيح من كل نفوسهم ويضعون كل اهتمامهم به عليهم ألا يتبعوا بعدها مشيئاتهم وتمتعات الجسد وألا تجتذبهم الأهواء الجسدية. لأن الذي يؤمن بالله عليه ألا يشك لأن ضعيف الإيمان يُدان بمثابة ملحد لأن رجاءه بالله غير ثابت. هكذا فإن الشهداء القديسين قد استسلموا لله من كل قلوبهم حتى إنهم ازدروا حتى بالموت نفسه مستعدين لتلقي العذابات وجراحات الجسد كلها مقدمين ظهورهم للجلد وأعضاءهم للتقطيع.
ويحدد لنا السيد المسيح القداسة معلناً ” كل من يعترف بي قدام الناس اعترف أنا به قدام أبي الذي في السموات ومن ينكرني قدام الناس أنكره أنا قدام أبي الذي في السموات.”
والاعتراف بالمسيح ليس كلامياً إنه اعتراف سلوكي حياتي. ” أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل والشياطين يؤمنون ويقشعرون” ( يعقوب 2: 19 ) صحيح أننا نتلوا دستور الإيمان ونعترف بالله الآب والابن والروح القدس الثالوث المتساوي الجوهر لكن اعترافنا هذا غير كاف وقد يكون دينونة لنا إن لم يقترن بالفعل المعاش، من يعترف بالآب المحب، بالمسيح الفادي المائت عنا، المنتصر على الجحيم، بالروح المعزي والمحيي يخضع للآب يلبس المسيح، ينقاد للروح وتكون حياته صورة صادقة لمعتقداته. من يتغنى بالإله الرحوم الغفور لا يظهر ” أنا ” متعالية تحتقر الأخ وتُسيء إلى القريب، تهتم بأمور الدنيا وتتعلق بالماديات مهملة تنقية النفس وابتغاء خلاصها.
المؤمن يعترف بالمسيح يعلن إيمانه به قولاً وعملاً يعكسه في حياته صبراً ووداعةً واتضاعاً، ينكر ذاته، يتخلص من كل تعلق، ينسلخ عن الخطيئة والفساد ليلتصق بالله، ليستحقه.
الدرب صعبة، شاقة لكن المؤمن لا يتراجع يسير في أثر مخلصه بفرح يختار الدرب بملء الإرادة.
القديسون الذين نعيد لهم اليوم اقتبلوا الألم طوعاً، أكملوا أقوال المخلص بالفعل، صيّروا الأرض سماء بالفضائل الحسنة وضارعوا موت المسيح المسبب عدم الموت، وساروا في الطريق الضيقة وطهروا آلام البشر بعلاجات النعمة، جاهدوا بشجاعة فاستحقوا الجلوس عن يمين ابن الآب ونحن نمدحهم لأنهم ” أزهار غير ذابلة ونجوم للكنيسة غير ضالة وضحايا مذبوحة اختيارية”. دربنا في أثر المسيح درب آلام وعذابات لكنها تفضي إلى النور الأبدي، إلى الحياة الأبدية من لا يحمل صليبه، من لا يحمل صليبه، من لا يعبر الجلجلة ويتذوق الخل والعلقم لا يستحق لقب تلميذ. والتلاميذ لم يسلكوا هذه الدرب، لم يعرفوا الاضطهاد الحقيقي والشهادة الحقيقية إلا بعد حلول الروح القدس عليهم، بعد أن أسلموا ذواتهم له. لهذا تدعونا الكنيسة إلى القداسة، إلى اتباع السيد، توعدنا أن نكون إناءً طيعاً في يد الرب، يحطمنا ويعيد صنعنا كما يشاء، لينسكب فينا روحه القدوس ونكون الصخرة التي يبني عليها كنيسته.
وعلينا كلنا ان نسبح بمدائح انجازات القديسين لأنهم جاهدوا بفكر شجاع لكي يرحمهم الله ويكون دمهم استغفاراً لنا. أصبحوا محرقات لنا كخراف بلا عيب، باكورة للشعب كله ، يقدمون نفوسهم ذبيحة مرضية لرائحة زكية متخذين مثالاً الفتية الثلاثة الشجعان حافظي الناموس والكارزين بالله. معهم لنسبح مخلص العالم لأنه ينبغي له المجد والقدرة إلى دهر الداهرين. آمين.