“مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا” (متى 10: 8). اذا ارادكم ربكم ان تحبوه فهذه المحبة تتربون بها وتنعمون بها ولا يكسب الله منكم شيئا. هو يبادر الى محبتكم لتفيدوا انتم من استمرارها فيكم، لتصبحوا حباً اي قادرين ابدا على تلقي عطفه فإن حنانه كل شيء. انتم لكم صورة اذا سكن فيكم من حيث انه هو الذي يشكل كلاً منكم بشراً سوياً.
والرب يعرفكم ابناء له وهو اوجدكم بهذه الصفة وستبقون ابناء لأن ابوته باقية الى الأبد ولا يريد منكم الا ان تحبوا بعضكم بعضا لتنوجدوا بهذا الرباط ويراكم عقدا واحدا آتين من رضائه.
هكذا يعامل الخالق كل مخلوقاته بدءًا من الانسان. يعطي بلا حساب ولا يقدر الانسان ان يرد له شيئا سوى طاعته وتعود على الانسان نفعا له. “بماذا اكافئ الرب عن كل ما اعطاني؟” سؤال طرحه الانسان على نفسه بعد ان عامله الرب برأفاته. ولما أدرك الإنسان بعد السؤال انه لا يستطيع ان يعطي ربه شيئا قال: “كأس الخلاص أقبل وباسم الرب أدعو”. وكأس الخلاص من الرب الى الرب. والدعاء من قلب الإنسان الساكن الله فيه اي ان الرب يخاطب نفسه اذا دعاه الانسان.
واذا قال الكتاب: “الروح يشفع فينا بأنات لا توصف” (رومية 8: 26) معنى ذلك انك اذا خاطبت الروح القدس بصلاتك فإنما هو يخاطب نفسه. بتعبير آخر هو الذي يصلّي فيك ويأخذ ناسوتك الى لاهوته حتى لا يعلق في ناسوتيتك شيء من الفساد. بكلام آخر، الرب يعيرك نفسه لتعود نفسك بك اليه فيستريح اليك وتقر فيه. انت لك ان تكون تاجرا في التقوى وهذا ما يقوله الكتاب لكن الله ليس بتاجر. هو لا يبادلك بشيء. انه يبادلك نفسه. انت لا تسترضي الله بشيء. انك تسترضيه فقط بالايمان اي ترد له ما اعطاك ثم يكرر عطاءه كل يوم وانت تذوقه جديدا لأن ربك دائما جديد بالينبوع الذي فيه وانت، على قدر نعمته، تحس انك أمسيت كائنا جديدا كأنك مخلوق عند فجر كل يوم ، كأنك ترى ربّك محييك صباح مساء لأنه لا يريدك على حس العتاقة ولا يرضاك قابعا في الموت الروحي فيبعثك حيا وكأنك لم تمت في خطيئة فإنه ينساها ولا يسجلها في ذاكرته التي لا تحفظ الا عودتك اليه.
***
ويريدك ان تبذل نفسك للناس غير طالب منّة ولا شكورا حتى لا تكون تاجرا ان عاملتهم. فاذا كنت فقيرا الى الله فلست فقيرًا الى أحد واذا أعطاك احد شيئا فيكون معطيا مما وهبه الله. لك ان تشكر لكل مخلوق ما أعطاك. ولكن إن شكرته فليس لتعرف نفسك مدينا ولكن ليعرف هو انه مدين للرب. لا تنسَ ان تعيد الناس الى الرب. لا يسوغ ان يحسوا بفضل عليك. هذه تجارة. المهم ان يؤمنوا انهم بنعمة الله أحبوك وخدموك. فاذا عرفوا انهم أحبّة الله يكونون اذا اعطوك عائدين الى ربّهم.
نحن عند وصيته ان احببنا بعضنا بعضا وهذا يربينا. ولكن من نحب اذا احببنا؟ في الحقيقة نريد ان يصبح الآخر إلهيا. اجل نحن نؤلف مجتمعا من الذين يحبون الله. الله يمتد او ينتشر اذا صحت الصورة بمعنى انه يضع حضرته فيّ ويضعها فيك. انه لا ينتقل. انه يسكن حيث يرحب به. هو لا يقتحم، لا يغتصب. هو يتأنسن فيك ويتأنسن بمن اختار. هو خفي فيك ويجعلك تتكلم باسمه. ولكن حذار ان تنسى انك تستعير كلامه الذي يصير كلامك بمعنى واحد وهو ان تطيع. سلوكك البهي هو كلمته. والكلمات التي وضعها ما قامت في كتابه فقط لتقرأها ولكن لتصيرها. هو سيرى في اليوم الأخير اذا صرتها وإن لم تفعل تكون بقيت أميا بالمعنى الروحي.
انه يريدنا ان نصير بالمحبة كلمة واحدة وإن بدونا بسبب من رؤيتنا اجسادا مختلفة. واذا قلنا اننا أضحينا كلمة واحدة فلنعني اننا بتنا حياة واحدة في سر المشاركة التي تجعل المؤمنين واحدا. هذه الوحدة اذا قامت بيننا ينكشف الله واحدا لنا وانكشافه كذلك يجعلنا انسانية واحدة قائمة بحبه هذا الباذل لنا حبيبه الوحيد.
في هذه الرؤية يصبح العشق الإلهي فينا كيانا اي انه ينزل علينا من هذا الذي احبّنا اولا وجعلنا له. واذا استأثر بنا فلمنفعتنا نحن، لنموّنا به، لسيرنا اليه والأولى ان نقول سيرنا فيه.
نحن لا نصير فقط بنعمته لكننا نصيرها. احد كبارنا قال إننا نكون بحبه بلا بدء. هذا طبعا سرّ لا كنه له عقليا لكنك بمحبوبيّتك تدرك كل شيء وتفهم ان النعمة مبثوثة فيك إن انت أطعت حتى ينتهي عقلك كله الى قلبك.
***
هذه كانت غاية الخلق واذا كان الله لا يحتاج الى خلق العالم والإنسان يكون قد برأك ليفيض حبّه عليك، لتصير كائن حب على صورته وحسب مثاله.
هل بعد هذا لك ان تتصور مجتمع حب؟ طبعا كان هذا هو مبتغاه في الخلق. انت ليس لك مبتغى آخر اذ ليس لك غذاء آخر او صورة بقاء وليس لك مع الآخرين صلة. الصلة انت تقيمها مع الآخرين بقوّة العطاء الذي فيك.
هذا مجتمع القديسين الذين اختطف بعضهم اليه والذين يقيم بعضهم على الأرض في ملكوته. ان الذين اخذهم اليه بعد ان ادركوا هذه الصورة والذين استبقاهم على هذه الأرض بعد ان نحتهم بالنعمة هم الأبناء الذين يؤثرهم والذين لم يدركوا جمال هذه الصورة يرحمهم حتى يفهموا ويصيروا. يصيرون اذا فهموا انه اعطاهم كل جمال فيهم مجانا فيشكرون وهو بأمانته الى نفسه يغدق دوما عليهم العطاء ليحسوا انهم اخذوا مجانا فتعلو قاماتهم اليه حتى يلامسوا عرشه ويظلوا هناك.