الوحدة المنشودة

الأب جورج مسّوح Wednesday January 23, 2013 71

تقتضي الصراحة أن نعترف بأنّ العقبة الكبرى التي تحول دون الوصول إلى الوحدة المنظورة بين الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، إنّما هي الخلاف على النظرة إلى موقع البابا، أسقف روما، وسلطته في الكنيسة. وفي الواقع، لا يسع أيّ عالم في تاريخ الكنيسة أن يغفل أهمّ مسألة أدّت إلى الانشقاق، وهي الخلاف بين الشرق والغرب في شأن “الأوّليّة البابويّة”. فاللاهوت الأرثوذكسيّ يؤكّد أنّ البابا بين الأساقفة هو “الأوّل بين متساوين”، وليس له أيّ سلطان قانونيّ على البطريركيّات الأخرى.

لكن في الغرب تغلّب شيئًا فشيئًا مفهوم قانونيّ مخالف تمامًا للأوّليّة وفق النظرة الأرثوذكسيّة، بحيث نصّب البابا نفسه سلطةً مطلقةً تعيّن الأساقفة وتعزلهم في كافّة أصقاع الأرض، وباتت حقوق الأساقفة مجرّد مشاركة في “كمال السلطة” الرومانيّة. وقد كان في محلّه التوجّس الأرثوذكسيّ من النزوع البابويّ إلى إحكام سلطته على كلّ الكنائس، فما شاهدناه بعد الانشقاق الكبير (1054) من إحكام قبضة البابا على كلّ الكنائس في العالم إلى حدّ إعلان عقيدة “العصمة البابويّة” عام 1870 يؤكّد مخاوف الكنائس الشرقيّة المتمسّكة برئاسة الأسقف الأبرشيّ على كنيسته المحلّيّة.

يعتبر اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ أوليفييه كليمان (في كتابه “روما: نظرة أخرى، الأرثوذكسيّة والبابويّة”، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة، ص 91) أنّ “أساس كلّ أوّليّة في الكنيسة هو المسيح وحده، المصلوب والقائم من بين الأموات، والمنتصر على الموت بالموت. المسيح هو وحده كاهن العهد الجديد الأعظم، الذي تعود له كلّ سلطة في السماء وعلى الأرض”. وتاليًا، “إنّ كلّ أوّليّة في الإنسانيّة المفتداة، وبخاصّة أوّليّة الأسقف في الكنيسة المحلّيّة، وأوّليّة المتروبوليت بين أساقفته، والبطريرك بين مطارنته، وأخيرًا أوليّة الأسقف الأوّل، أسقف روما، ليست إلاّ صورة هشّة عن الأوّليّة التي كان الأب ليف جيليه يلقّبها بالسيادة الـمُحبّة، أوّليّة الخدمة حتّى الشهادة، شهادة الدم والموت إذا اقتضى الأمر”.

وقد يكون إقرار البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني بأنّ ما يطمح إليه مع الأرثوذكس هو “الشركة وليس السلطة”، الباب الحقيقيّ إلى استعادة الوحدة بين الكنيستين. هكذا، يمكن الحديث عن العودة إلى الصورة التقليديّة للعلاقات بين الكنائس المبنيّة على استقلاليّة الكنائس المحلّيّة، والتي في كلّ منها يتحقّق ملء الكنيسة، والشركة بالقدسات (الإفخارستيّا) فيما بينها جميعها هي التي تجعلها واحدة، تجعلها جسد المسيح الواحد.

ينبغي أيضًا ألاّ ننسى أنّ الإيمان المسيحيّ يقوم أساسًا على الإيمان بالثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. من هنا، يشدّد اللاهوت الكنسيّ على القول بـ”التنوّع في الوحدة” و”الوحدة في التنوّع” للدلالة على العلاقة القائمة بين الأقانيم الثلاثة. فالوحدة لا تلغي الخصوصيّة التي تميّز كلاًّ من الآب والابن والروح القدس. كما أنّ التنوّع لا يعني الفردانيّة، أو التفرّد، وعدم العلائقيّة الخلاّقة. على مثال هذه الصورة الثالوثيّة ينبغي أن تقوم الوحدة بين المسيحيّين. فالوحدة المنشودة وحدة في الإيمان تحترم الخصوصيّات اللغويّة والعباديّة والثقافيّة والحضاريّة…

الخلاف الكاثوليكيّ-الأرثوذكسيّ في شأن موقع البابا في الكنيسة العالميّة، يجب ألاّ يمنع السعي إلى حلّ الخلافات الأخرى ذات الطابع العقائديّ، أو الخلافات التي يمكن تجاوزها على الصعيد المحلّيّ… من أجل اتّحاد الجميع إلى الربّ نطلب.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،23 كانون الثاني 2013

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share