الزواج ما بين الشكل والمضمون

الأب جورج مسّوح Wednesday February 6, 2013 84

يحدّثنا أبو الفرج الإصفهانيّ في كتابه “الأغاني” عن وفاة والدة الحارث بن أبي ربيعة، وهو مسلم، أخي الشاعر المشهور عمر بن أبي ربيعة، فيقول: “لـمّا ماتت حضر الأشراف جنازتها، وذلك في عهد عمر بن الخطّاب، فسمع الحارث من النساء لغطًا فسأل عن الخبر، فعُرف أنّها ماتت نصرانيّة، وأنّه وُجد الصليب في عنقها، وكانت تكتمه ذلك. فخرج إلى الناس، فقال: “انصرفوا يرحمكم الله، فإنّ لها أهل دين هم أولى بها منّا ومنكم”. فاستُحسن ذلك منه وعجب الناس من فعله” (حبيب زيّات، سمات أهل الكتاب في المصنّفات العربيّة، دار الحمراء، ص 22).

إن دلّ هذا الكلام على شيء فقد دلّ على احترام الحرّيّات الدينيّة، وانعدام العداء للنصارى. فمن المعلوم أنّ جنائز النصارى يصحبها دائمًا “إظهار الصليب”، وما دعوة الكهنة إلى تشييع والدة الوجيه المسلم إلاّ الدليل على رحابة المسلمين وانفتاحهم وإنصافهم في عهد عمر بن الخطّاب، صاحب الفتوحات الكبرى. لكنّ هذه الرواية تدلّ أيضًا على مدى رحابة المسيحيّة، من حيث أنّ هذه المرأة المتوفّاة لم يتمّ الحكم عليها بالحرم والخروج عن تعاليم الكنيسة لأنّها تزوّجت بمسلم، وتمّ دفنها بحضور أهل ملّتها.

واستمرّت هذه العادة إلى أيّامنا هذه. فكلّ مَن تزوّج من غير دينه، أو تزوّجت من غير دينها، مع بقائهما كلّ منهما على اعتناق إيمانه الأصليّ، يتمّ تشييعه وفق شعائر دينه. فقارئ النعوات في الصحف، من حين إلى آخر، يلاحظ دعوات إلى جنازة كنسيّة لامرأة مسيحيّة متزوّجة من مسلم، أو لرجل مسيحيّ متزوّج من مسلمة، أو دعوات إلى جنازة إسلاميّة لرجل مسلم متزوّج من مسيحيّة.

فما معنى الكلام عن الحرم الكنسيّ لـمَن لا يعقد، أو لا تعقد، زواجًا كنسيًّا لطالما ظلّ متمسكًا بإيمانه؟ هل الحبّ السامي الذي يربط بين شخصين من دينين مختلفين يمنعهما من محبّة الله ويحرمهما من أن يشاركا في حلول نعمة الله وبركاته عليهما؟ هل يكون الحلّ بأن يعطى سرّ الزواج المقدّس الذي لا يستحقّه سوى المعمّدين لغير المعمّدين، كما هي الحال في الكنائس الكاثوليكيّة، عندما يكون العروسان من دينين مختلفين؟ أليس في ذلك حلّ شكليّ، لا جوهريّ، لمسألة لاهوتيّة أكثر عمقًا؟

مع انحيازي الكامل إلى الزواج الكنسيّ، غير أنّ ثمّة حالات تحول دونه، وبخاصّة عندما يكون العروسان من دينين مختلفين. وقد درج مؤخّرًا لدى بعضهم، في سبيل إرضاء الأهل، اللجوء إلى عقد زواجين شكليّين، واحد إسلاميّ وواحد مسيحيّ، بموافقة المسؤولين الدينيّين وتواطؤهم، وفي هذا نفاق كبير.

“الله محبّة”، عبارة توجز كلّ الإيمان المسيحيّ. المحبّة التي تجمع رجلاً وامرأة في شركة الزواج هي الأصل. والعلاقة الزوجيّة بينهما بما تتضمّنه من احترام وتراحم وتضحيّة وبذل وإخلاص ووفاء وأمانة والتزام… هي التي تجعل الله يرضى عنهما. لن يطلب الله في اليوم الأخير من الزوجين الماثلين أمامه عقد الزواج وأين عقداه، بل سيسألهما: هل أحببتما أحدكما الآخر كما أنا أحببتكما وأحببت العالم؟

علم المنطق والرياضيّات يفيدنا بما يأتي: إذا كان الله أكبر. وإذا كان الله محبّة. النتيجة، إذًا، المحبّة أكبر. ليس كمثلها شيء.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 6 شباط 2013

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share