تؤكّد الوقائع التاريخيّة أن يسوع الناصريّ قد مات على الصليب حوالى العام 30 على أثر محاكمته أمام السنهدرين، أي مجلس القضاء الأعلى اليهوديّ، في أثناء ولاية بيلاطس البنطيّ. غير أنّ الإيمان المسيحيّ يشهد منذ البداية لهذا الحدث أكثر ممّا تشهد له الوقائع التاريخيّة. فإنّ أحد اعترافات الإيمان المسيحيّة الأكثر قدمًا الذي ربّما تعود صياغته إلى فترة قريبة من موت الربّ وقيامته يقول: “إنّي قد سلّمتُ إليكم أوّلاً ما قد تسلّمتُ أنا نفسي : أنّ المسيح قد مات من أجل خطايانا، على ما في الكتب، وأنّه قُبر، وأنّه قام في اليوم الثالث، على ما في الكتب، وأنّه تراءى لكيفا ثمّ للاثني عشر” (1كورنثس 15، 3-4). إنّ موت يسوع وقيامته يوصَفان بأنّهما حدثٌ جرى “على ما في الكتب”، أي أنّهما حدثٌ إلهيّ. ويُعترف في الوقت عينه بأنّ هذا الحدث قد تمّ من أجلنا.
يصف القدّيس بولس الرسول موت يسوع بأنّه بذلٌ للذات. ففي الرسالة إلى أهل غلاطية، يعلن بولس إيمانه “بابن الله الذي أحبّني وبذل نفسه عنّي” (2، 20). إنّ القوّة التي دفعت يسوع إلى بذل ذاته من أجل الناس الخطأة تتجلّى عبر طاعة الابن. فبما أنّ الآب يحبّ البشر بأقصى المحبّة، فالابن يشارك طائعًا بذل الآب له، فهو لايحيا ليرضي نفسه بل ليرضي الله، ولذلك تقع عليه الإهانات التي تهين الله: “فالمسيح لم يطلب ما يطيب له، بل كما ورد في الكتاب: تعييرات معيّريك وقعت عليّ” (رومية 15، 3). فالتمرّد على الله ورفض الآب، اللذان يتميّز بهما هذا العالم الساقط في الخطيئة، يقعان عليه.
بيد أنّ الربّ يسوع، ابن الله الوحيد، يتمسّك بهؤلاء الناس، الذين سقطوا فريسة الخطيئة. فهو ينظر إليهم بحبّة ورأفة عظمَيين بلا قيد ولا شرط، إلى حدّ أنّه يأخذ على عاتقه كلّ أوزار الخطيئة والذنب والموت الكامنة فيهم. وفي هذا السياق، يذهب بولس الرسول إلى القول إنّ يسوع المسيح قد صار خطيئة ولعنة من أجل البشر: “ذاك الذي لم يعرف الخطيئة جعله الله خطيئةً من أجلنا كيما نصير فيه برَّ الله” (2كورنثس 5، 21)، “إنّ المسيح قد افتدانا من لعنة الشريعة إذ صار لعنةً لأجلنا، فقد ورد في الكتاب: ملعون مَن عُلّق على خشبة” (غلاطية 3، 13).
الصليب والقيامة، وفق الإيمان المسيحيّ، هما دليل رحمة الله ومحبّته اللامتناهية لبني البشر. فبولس الرسول يقول: “بل من أجلنا أيضًا نحن الذين يُحسب لنا الإيمان برًّا، لأنّنا نؤمن بمَن أقام من بين الأموات يسوع ربّنا، الذي أُسلم إلى الموت من أجل زلاّتنا، وأُقيم من أجل برّنا” (رومية 4، 24-25). فرحمة الله ومشاركته البشر في آلامهم هما أقوى من الموت، أمّا بذْل يسوع ذاته من أجل الخطأة إنّما هو فداء وخلاص: “وإنّ الله الذي أقام الربّ سيقيمنا نحن أيضًا بقدرته” (1كورنثس 6، 14)، وأيضًا: “لقد صُلب (يسوع) بضعفه، ولكنّه حيّ بقدرة الله. ونحن أيضًا ضعفاء فيه، ولكنّنا سنكون أحياء معه بقدرة الله فيكم” (2كورنثس 13، 4).
موت يسوع وقيامته ليسا حدثين يخصّانه هو نفسه وحسب. فقيامته من بين الأموات ليست مجرّد تبرير للصدّيق أو للشهيد المضطهَد، كما اعتقدت اليهوديّة المتأخّرة. فبحسب سفر الحكمة وأسفار المكابيّين، يمنح الله المضطهَدين من أجله نصيبًا في الحياة الأبديّة. غير أنّ موت يسوع وقيامته يتخطّيان بما لا يقاس هذا الاعتقاد اليهوديّ. فموته وقيامته يشكلاّن حدثًا خلاصيًّا شاملاً، لأنّ حياة يسوع وبذْله ذاته للبشر قد اعتلنا في هذه الوقائع بمثابة منح الله ذاته منحًا كاملاً من أجل خلاص البشر.
لقد بشّر الربّ يسوع بأنّ الله يحبّ العالم والناس، حتّى الخطأة منهم، بأقصى المحبّة وبمحبّة مطلقة. والشخص الذي يحبّ يضع كيانه وسعادته في محبوبه. إنّه لا يجد سعادته في ذاته. سعادته هو الشخص المحبوب الذي منه ينال ذاته والاعتراف به وملأه. ولكن عندما يكرز يسوع بالله المحبّ، فليس من حيث إنّ الله يحتاج إلى الخليقة أو إلى الإنسان ليملأ ما فيه من فراغ. بل يكرز بالله على أنّه، من فيض صلاحه وحسب، يحبّ الإنسان محبّة كاملة، محبّة مجّانيّة. فموت يسوع، إذًا، وقيامته هما حدثٌ عظيم بالنسبة إلى هذا الإله الذي يحبّ من فيض كيانه.
يتبيّن أنّ المسيح، في آلامه وصليبه وقيامته، قد وضع نفسه إلى الأقصى. لم يحتفظ لنفسه بشيء، بل تجرّد تجرّدًا كاملاً عن ذاته وعن مشيئته الخاصّة، علمًا أنّه قال: “كلّ ما هو لي فهو لك، وكلّ ما هو لك فهو لي” (يوحنّا 17، 10). ففي الصليب والقيامة يكتسب اسم “الآب” بالنسبة إلى الله معناه الكامل، واسم “الابن” بالنسبة إلى يسوع معناه الكامل أيضًا. وقد أعطانا أن نصبح نحن أيضًا أبناء الله “الذين لا من دم، ولا من رغبة لحم، ولا من رغبة رجل، بل من الله وُلدوا” (يوحنّا 1، 13)، هو “البكر بين إخوة كثيرين” (رومية 8، 29). القيامة دعوة الله لنا كي نصبح أبناء لله بفضل “البكر القائم من بين الأموات”. المسيح قام. حقًّا قام.