قَبْلَ العنصرة أحد الآباء

mjoa Saturday May 31, 2014 115

في هذا الأحد الذي يلي عيد صعود الربّ إلى السماء ويسبق عيد العنصرة، تدعونا الكنيسة إلى أن نتحلّق حول آباء المجمع المسكونيّ الأوّل، الذين اجتمعوا في مدينة نيقية، ليردّوا على آريوس الكاهن السيّئ الذكر الذي انحرف عن الإيمان بإنكاره ألوهيّة يسوع، له المجد. فالآباء القدّيسون، الذين تنادوا إلى هذا المؤتمر العالميّ في العام الـ325، كان همّهم الأوّل أن يدافعوا عن الإيمان القويم، ويشجبوا كلّ ما يخالفه.

مَنْ يعرف دورة السنة الطقسيّة، لا يفته أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تجمعنا، مرّاتٍ عدّةً، حول آباء قدّيسين ثبّتوا التعليم القويم. وهذا، في شكله ومضمونه، يبيّن أنّها تنتظر، دائمًا، أن نأتي من فكر أشخاص ولدونا في المسيح (فنحن لا نأتي من طريق المصادفة)، وأن ندرك، تاليًا، أنّ ثمّة مسؤوليّةً كبيرةً ملقاةً علينا، وهي أن نحفظ، نحن أيضًا، الإيمان سالمًا، لنسلّمه بدورنا إلى أولادنا وأحفادنا وكلّ مَنْ معنا وإلينا وسيأتي بعدنا. فبهذا المعنى الواحد، كنيستنا كنيسة الآباء. وذلك بأنّ التوالد الجسديّ لا يدلّ على الأبوّة الحقّ. كلّ مَنْ يلد آخرين بالبشارة، في المسيح يسوع، كان هو أباهم (1كورنثوس 4: 15).

إذًا، من العقائد المحيية، التي يدعونا عيد اليوم إلى التزامها أبدًا، أنّ المسيح “واحد مع أبيه في الجوهر”. وإن قلنا هذا ثبّته الآباء القدّيسون في نيقية، لا نقصد أنّهم اخترعوه في ذلك المؤتمر. فآباء نيقية كان فكرهم يتحرّك على قاعدة ما كشفه الله في مسيحه. هم لم يكن لهم، في أمور العقيدة القويمة، فكر خاصّ، بل “فكر المسيح”. وفكر المسيح هو المسيح نفسه وما قاله وعمله. طبعًا، لم يقل الربّ حرفيًّا: “أنا وأبي واحد في الجوهر”. لكنّه قال ما يبيّن هذا. قال مثلاً: “أنا والآب واحد” (يوحنّا 10: 30). وقال: “مَنْ رآني، فقد رأى الآب” (يوحنّا 14: 9). وكما نقرأ في إنجيل اليوم، قال أيضًا: “كلّ شيء لي هو لك، وكلّ شيء لك هو لي أنا” (يوحنّا 17: 10). وهذا، (أي “المسيح واحد مع أبيه في الجوهر”)، يستدعي التذكير بأنّ الآباء، الذين استندوا إلى الكتب المقدّسة في دفاعهم عن الحقّ، قالوا إيمانهم الذي ورثوه جيلاً فجيلاً. فالمعارك، التي خاضوها ضدّ تشويه الإيمان، كان سببها أنّ المبتدعين، الذين ادّعوا أنّهم يستندون إلى الكتب، إنّما كانوا يستندون إلى بنات أفكارهم، أي أتوا بها من خارج إرث الكنيسة التي استلمت الكتب ومعانيها في آن.

هذا التسليم هو عصب حياتنا في المسيح. ولا يعوزنا أن نؤكّد أن ليس في تراثنا مصدران للإيمان، بل مصدر واحد هو “الإيمان الذي سلّم إلى القدّيسين تامًّا” (يهوذا 3)، أي إلى الكنيسة. فما أخذ آباءنا، منذ البدء، أنّ الكتب المقدّسة لا تُفهم إلاّ على ضوء ما تسلّمناه تامًّا. ليست كتبنا كلماتٍ نفهمها اعتباطًا، بل باعتناقنا إرشاد “كنيسة الله الحيّ، عمود الحقّ وركنه” (1تيموثاوس 3: 15). ثمّة مثل كتابيّ يوضح ما نقوله هنا. وهذا جرى كالتالي: “كان خصيّ ذو منصب رفيع عند قنداقة ملكة الحبش، راجعًا من أورشليم في مركبته، يقرأ النبيّ أشعيا. فبادر إليه فيلبّس (أحد الشمامسة السبعة الذين اختارهم الرسل)، بأمر من الروح القدس، وسأله: “هل تفهم ما تقرأ؟”. أجابه: “كيف لي ذلك، إن لم يرشدني أحد؟”. فصعد معه إلى مركبته، وأخذ، ممّا يقرأه، يبشّره بيسوع” (أعمال الرسل 8: 26- 38). للكتب معانيها. وهذه في عهدة الكنيسة. وهذا ما خالفه المبتدعون الذين أخذوا الكتب، وأهملوا الكنيسة التي استلمتها.

السؤال، الذي يطرحه علينا هذا العيد، هو: كيف نحفظ الإيمان سالمًا؟ والجواب واحد: بالالتزام الكنسيّ فكرًا وحياة. مَنْ أغواهم أهل البدع في غير جيل، كانت مشكلتهم أنّهم لم يلتزموا كنيستهم حقًّا. بلى، كثيرون منهم كانوا أعضاء في الكنيسة. ولكن، هل كلّ عضو يلتزم حقّ كنيسته؟ لقد ذكرنا أنّ آريوس، مبتدع أنّ المسيح مخلوق، كان كاهنًا قانونيًّا (قَبْلَ انحرافه). لكنّه رمى نفسه في جبّ الزوغان بإغراقه ذاته في فلسفات أهل الأرض، وإهماله “قانون إيمان” كنيسته. وهذا كلّه يعني أنّ أعلى مقتضى التزامنا أن نثق بأنّ الكنيسة لا تقدّم لنا ما رأته بشريًّا، بل ما سلّمها إيّاه ربّها يسوع شخصيًّا. ثمّة هرطقة مريعة أخذت تنتشر بيننا اليوم، وهي أنّ بعضًا يستهوون الفصل، في بعض أمور الالتزام الملزمة، ما بين الكنيسة وربّها. وهذا شرّه لا يبتعد عن أيّ هرطقة أخرى، أيًّا يكن تعبيرها. كلّ هرطقات الأرض قاعدتها أن يعمى الإنسان عمّا رأته كنيسته. على مدى التاريخ، ليس من هرطقة أخرى.

ليست العقيدة رأيًا حتّى يقول قائل، أمام أيّ أمر خلاصيّ، إنّ رأيي هو آخر. العقيدة تعليم ملزم للخلاص. ما من شكّ في أنّنا لا نجد اليوم، ولا سيّما في صفوف الملتزمين، مَنْ ينكر ألوهيّة المسيح. لكنّ هذا لا يمنعنا من التذكير بأنّ دعوتنا، في هذا العيد وفي أيّ عيد آخر، لا تقوم على التزام ما يقنعنا وإهمال ما لا يقنعنا، بل أن نلتزم الكنيسة كلّها بوعي ظاهر. كلّ عيد هو دعوة جديدة لنا إلى تعميق هذا الالتزام الذي ليس لنا من التزام سواه. المسيحيّ شخص كنسيّ. كلّ ما يريد قوله تشرّعه حرّيّته التي في المسيح. ولكنّ شيئًا لا يسمح له بأن يخالف العقيدة، أو ما تسلّمه من الكنيسة، أو الكنيسة ذاتها.

بعد صعود الربّ إلى السماء، كان هذا العيد معنى من معاني أنّ يسوع إنّما باقٍ معنا. وهذا، بإذن الله، ما سنفهمه، بوضوح كلّيّ، في الأحد التالي الذي سيعطينا الربّ فيه “روح الفهم”، لنعي أنّه باقٍ معنا يقود كنيسته الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة، التي تضمّنا، إلى نهاية العالم (متّى 28: 20).

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share