حِكْمَةُ الصَّلِيبِ – الأسقف غطّاس (هزيم)

mjoa Monday September 15, 2014 115

نتقدَّم إلى تذكار رفع الصَّليب المكرَّم، الَّذي فيه رَفَعَتِ القدِّيسَةُ هيلانة الصَّليبَ بعد أنْ وَجَدَتْهُ، ليكونَ حمايةً للمؤمنين من الغُزاة. ماذا يعني الصَّليب لنا، وبخاصّة في أيّام الضِّيق هذه؟. الصَّليب يعني قوَّة المحبَّة والرَّجاء، قوَّة الحياة والقيامة من الموت، إنّه الواقعيَّة المسيحيَّة في نظرتها إلى العالم.
 
يقول البعض إنّ المسيحيّة ديانة الماورائيَّات، ديانة مثاليَّة، ديانة لا يمكن تطبيقها، ديانة فلسفيَّة لا يمكن فهمها، ديانة بعيدة عن الواقع طالما إنّها لم تَحُدَّ الإنسانَ بشرائع، إنّها ديانة روحانيّة. الجواب: هذه ليست المسيحيّة. المسيحيّة هي الأكثر واقعيَّة في الحياة، لا بل جَعَلَتِ الماورائيَّات مرئِيَّات، واتَّخَذَ اللهُ فيها هيئةَ بشرٍ ليعلِّمَ البشرَ، الَّذين انْحَرَفُوا بفعلِ الخطيئةِ، كيف يعيشون. المسيحيَّةُ حرَّرَتِ الإنسانَ من قيودِ الشَّريعةِ ليكونَ حُرًّا بالله. المسيحيَّة “رَوْحَنَةُ” المادّة، ليكون كلّ ما في العالم مُقَدَّسًا كما أرادَهُ الله.

حكمة-الصليبالمشكلةُ هي في طريقةِ تفكيرِ الإنسانِ وسلوكِهِ بعد السُّقوط. إذ بعد انكفائه على ذاته، أصبح يقيس الأشياء من خلال ذاته وبها، فَقَوِيَتْ أهواؤه وعَظُمَتْ أَناهُ، وسادَ عليه حبُّ السُّلْطَةِ، وأصبح العالمُ غايةً بحدِّ ذاته، لا كما خَلَقَهُ اللهُ إنَّما كما صَوَّرَهُ له الشِّرِّير.

والكارثةُ أنّه ربطَ رجاءَهُ بهذا العالم الفاني. لقد قَسَا قلبُ الإنسانِ وأخذَ ينظرُ إلى الآخَرِ من خلال مصلحتِهِ الضَّيِّقَة؛ أصبح نرجِسِيًّا وسادِيًّا. هنا تَكْمُنُ أهمِّيَّةُ المسيحيَّة، الَّتي قَرَأَتِ الواقِعَ وقالَتْ إنَّ الحياةَ قائمةٌ على الصَّليب وليس على الفلسفةِ المادِّيَّة الَّتي تنادي بالسَّعادةِ والسُّهولةِ، وبإطلاقِ العِنَانِ للرَّغباتِ والشَّهَوَاتِ والتَّسَلُّطِ والأنانيَّة. إنَّها حكمةُ هذا العالم الَّتي أَدَّتْ إلى الإحباطِ والانتحار والحروب، لا بل قَطَعَتِ الإنسانَ عن رجائه، لأنَّ الحياةَ ليست هكذا. فالقدّيس بولس الرَّسول يقول: “كلُّ شيءٍ مُبَاحٌ لي ولكن ليس كلُّ شيءٍ يوافِق، كلُّ شيءٍ مباحٌ لي ولكن لا يتسلَّط عليَّ شيء” (1كور 6: 12). هذا كلامٌ يقودُ إلى الحُرِّيَّةِ والسَّعادة. فعندما تُدْرِكُ سرَّ وجودِكَ وتصبحُ سَيِّدَ ذاتِك، تتحرَّرُ من عبوديَّة الأنا وتنالُ الحياةَ والسَّعادة.

هنا يَكْمُنُ سرُّ الصَّليب، وما تذكاره اليوم إلّا لتقول لنا الكنيسة: ليس صحيحًا أنّ الحياة سهلةٌ وتستطيع صياغتَها كما تشاء، إنّما واقع الحياة يَكْمُنُ في المواجَهَةِ والصَّبْرِ وترويضِ الذَّاتِ، لأنّ هذه هي حكمةُ الصَّليب، حكمةُ يسوع المسيح الَّتي أدّت إلى الحياةِ وفرحِ القيامة.
إنَّ حكمةَ اللهِ لا يعرفُهَا إلّا روحُ اللهِ ومَنْ عندَه هذا الرُّوح، أمّا حكمة هذا الدَّهرِ فهي الَّتي صَلَبَتْ رَبَّ المجد (1كور 2: 7-16). نعم!، ما زالت تصلبه حتَّى اليوم، لأنّها فَضَّلَتِ الظُّلمةَ على النُّور برفضها كلمةَ اللهِ وروحَه.

رجاءُ المسيحيّ لا يفقد الأمل مهما اشتدّ الكَرْبُ، إنّه النَّظرة المتفائلة الَّتي لا يدركها قلقٌ ولا اضطراب

ولا حزن ولا كآبة ولا يأس. إنّه النَّظر باستمرار إلى مستقبلٍ أفضل وإلى غَدٍ أسعد. فيخاطب المسيحيُّ العقلَ ويقول: كلّ شيء سيَؤُولُ إلى صَلاحٍ، وكلّ معضلةٍ لا بدّ أن تُحَلّ، فكلّ شيء له منتهى كما يقول كتاب الجامعة.
اللهُ هو رجاءُ مَنْ ليس له رجاءٌ، ومُعِينُ مَنْ ليس له مُعِين. والرَّجاء في انتظار الرَّبِّ لأجل جلاء كَرْبٍ ما، يكون بفرحٍ وثقةٍ: “انتظِرِ الرَّبَّ وتَقَوَّ وليتشدَّدْ قلبُكَ، واعرَفْ أنَّ الرَّبَّ سيأتي إليكَ ولو في الهزيع الأخير من اللَّيل”، “أمّا المنتظرون بالرَّبِّ فيتجدَّدُون بالقوّة ويُرفَعُون بأجنحةٍ كالنُّسور”.

هذا هو الصَّليب: أنْ تُدرِكَ أنَّكَ في الرَّجاءِ دائمًا، لأنّ القيامة تأتيكَ من وسطِ الظُّلمةِ مُبَدِّدَةً إيَّاهَا وغادِقَةً الفرحَ لمنتظريها. لنقرأ التّاريخ، هذا هو واقع الحياة، فلا نَكُنْ أبناءَ يأسٍ إنَّما أبناء الرَّجاء الّذي لا يُنزَع مِنَّا.

نشرة الكرمة

14 أيلول 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share