حتميّة الصّليب إمّا المحبّة وإمّا الجحيم! – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday September 15, 2014 64

   أثمن ما في الحياة، ما لا يحتمل الزّغل، وما فيه الحياة الأبديّة، هو محبّة الله، أو الله المحبّة؛ وهذان مترادفان لأنّ الله محبّة!. ولأنّها لا تحتمل الزّغل، لأنّ الزّغل يطيحها، ومن ثمّ يذهب بالله، فإنّ المحبّة لا تستبين جليّة إلاّ في التّفاصيل، أدقّها!.

   بعدما انقطع الإنسان عن محبّة الله، إذ أحبّ نفسَه، أوّلاً، وخرج، أو، بالأحرى، سقط من عَلو، من الفردوس، من حيث محبّة الله هي الفردوس، ما عاد الإنسان يعرف كُنْهَ محبّة الله، كما سبق له أن عرفها. كلّ محبّة، مذ ذاك، باتت مقلَّدة، وأضحت، في القلب، محبّةً زيفًا لذات الإنسان في الله والنّاس والخليقة. الحبّ الفردوسيّ، قبلُ، كان أنّ الإنسان أحبّ الله لذاته. أمّا بعد السّقوط، فأضحى الحبّ أن يحبّ الإنسان نفسه في الله. وما سرى على علاقة الإنسان بالله تردّد صداه في علاقة الإنسان بالإنسان والخليقة.

   الحبّ، في فلك النّاس، صار عواطف ومشاعر وأحاسيس، مغمَّسة في وَلَه الإنسان بنفسه!. العالم، في إطار الواقع المستجدّ، أضحى مشبعًا بالثّقافة الذّاتيّة المحور. وما لا يمتّ إلى ثقافة “الأنا”، بصلة، صار يُعتبر نكرة!.

حتمية-الصليب   دخل الإنسان، المجبول، أساسًا، بمحبّة الله، في غربة عن الله، ومن ثمّ في غربة عن نفسه وعن الخليقة. وإنّما الغربة لا فقط من التّغرّب، بل، أيضًا، من الغروب!. المعيار، إثر السّقوط، بالنّسبة لمسير الإنسان، بات من مغيب إلى عتمة إلى حِلكة إلى ظلمة خارجيّة تُعادلُ العدم!. الحياة المدفوعة للمخلوق باتت، في عمقها، مسيرًا مطّردًا نحو الموت!. فجر الخليقة كان حكاية انبجاس حبٍّ. أمّا فجر السّقوط فدفع الخليقة إلى انبجاسِ موتٍ، فيه يحيا المرءُ، كلَّ لحظة، في المواتية، ليموت، بعد أن تكون قد اكتملت دورة اللاّحياة، أو قل الحياة في النّكوص، في التّناقص المطّرد، فيه!. هذا، فيما كان الأصل خروجًا من العدم، ودخولاً، أو قل شركةً في حياة الله!. الأبديّة، في الخلق، كانت تلقائيّة، لأنّ الحياة في الله لا تكون إلاّ مشبعة بكيان الله. لا مطرح في الله لا لموت ولا لإمكان موت. حتّى موت المسيح، ابن الإنسان، ابتُلع من الحياة، حياة الله!. ولو كان غيرُ المخلوق أَبدع مخلوقًا، فما كان يمكن المبرَأَ أن يكون من غير معدن المبرِئ، وإلاّ لا معنى لخلقٍٍ؛ وما الله بلا معنى وما يُنتِج ما لا معنى له!. في الله إرادة وقدرة، ولكن لا شيء فيه من غير معدن ذاته. لا تضاد في الله!. لذا القول بخلق اللهِ الإنسانَ على صورته ومثاله يحمل معنى أوحد، وهو بثُّ الله ذاته، نعمةً، في مخلوقه!. في المخلوقيّة ليس المرتكز أنّ ثمّة ما هو للموت، بل أنّ ثمّة ما له بداية ممّن لا بداية له!. الخلقُ هو الأبديّة المبدأة في المخلوق، حبًّا، كون الحبّ خلاّقًا بطبعه!. هذا، فيما الموت خروج إراديّ مخلوقيّ، من السّياق الإلهيّ، وليس من طبع المخلوقيّة!. من هنا كون الموت سقوطًا، وكونُ السّقوط موزِّعًا ذائعًا بالموت!.

   على هذا، في مدى غربة الإنسان عن نفسه، لا يستعيد نفسَه إلاّ بالتّوبة، بالعودة إلى نفسه، إلى ما أضاع، إلى الأصل والأصالة، إلى المحبّة الأولى، إلى المحبّة الّتي بها برأه الرّبُّ الإلهُ مخلوقًا!. وهذا صار بالإيمان وحده يُعطَى!. الخلق الأوّل كان فيضَ حبّ، فيما صار الخلق الثّاني فعلَ إيمان!. “بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه”. قيل (عبرانيّين 11: 6)!.

   ثلاثة تتداخل، بعد السّقوط، نحو القيامة: الإيمان والأمانة والأمان!. إذا ما كانت ركائزُ الإيمان الثّقةَ بالله والتّسليمَ والإيقانَ، فالأمانة هي دقّة المسرى على سلامة الطّويّة، إذ يتعاطى المرء الإلهيّات. لذا كان الإيمان والأمانة، في الاستعمال اللّغويّ، واحدًا. ما هو من جهة الإنسان، في الحقيقة، يجعلهما كذلك. السّقوط لم يعطِّل الأمانةَ بالكامل. لا زال المرء قادرًا على تعاطي الأمانة إلى حدّ ليس بقليل. قابلٌ هو لضغط نفسه ليكون في مستوى لائق من الأمانة. هي حصّته في التّعاون مع الله، في كلّ حال، وما زاد عليه يتولاّه ربّه. الدّقّة في الأمانة، هنا، تلتقي واستقامة القلب. الزّغل الّذي سبق أن تكلّمنا عليه، يؤكِّد الأمانة في استقامة القلب هذه. وهذه، إن التزمها المرء، يسّرت فيه انسكاب نعمة الله الموعودة!. المعادلة بسيطة: ما يسلك فيه الإنسان بأمانة، ولو قاصرًا، من ضعف، وأقول من ضعف نفيًا للتّهاون والتّراخي، يقابله الله بعطاء كامل، لا يؤثّر فيه ضعف الإنسان!. الضّعف لا يعطِّل عمل الله بحال!. قوّتي في الضّعف تُكمَل. قال. بل التّراخي!. اليد الرّخوة لا تجمع حصادًا!. نظرُ ربّك إلى حركة قلبك لا إلى مقدرتك!. لا مانع أن تقدِّم فلسًا بسلامة نيّة!. ربّك يضع، في المقابل، ألف دينار!. لذا لا تحتاج إلى الكثير لتنسكب عليك البَرَكة!. تحتاج إلى طفرة أصيلة تنبعث من قلبك!. المحبّة في التّفاصيل تتجلّى لأنّ الإيمان في دقائق المواقف يكون، والأمانة باستقامة القلب!. في تشوّفك إلى ربّك نواقص؟ ليس في ذلك ضيم!. المهمّ أن تكون في الشّوق، في الحرارة، في الميل الصّادق إليه!. نواقصك، معايبك، ضعفاتك، ليست، بالأكثر، في يدك!. المهمّ أن تريد لا أن تقدر!. ساعتذاك يكون انعطافُه عليك كاملاً!. لا هنّة في عطائه، في اتّخاذك، في احتضانك!. بعد ذلك، لا تعود بحاجة لأن تفهمْ!. كلّ شيء يكون معدًّا لك، بدقّة، في أوانه!. لا صدفة لدى ربّك!. ما تحتاج إليه وما ينفعك يحرِّك ربُّك الكلَّ ويسخِّرُه ليكون لك!. لا أعظم من الأمانة والتّسليم!. السّماء، كلّها، إذ ذاك، تمسي ملء يديك!.

   ثمّ بالأمانة يأتي الشّعور بالأمان!. ينمو الحبّ ويتبدّد الخوف!. في المسير، الخوف للمنفعة لأنّه يأتي بك إلى ربّك. بدء الحكمة مخافة الله. ثمّ اعتياد الأمانة واختبار ثمار الإيمان يعزِّزان حضورَ ربّك في حياتك، فيمسي الخوفُ من الله خوفًا إليه والتصاقًا به!. إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا!.

   لستَ متروكًا!. أنت تتخلّى عن ربّك!. ربُّك لا يتخلّى عنك!. كلّه، بالحبّ، لديك!. فإن تعثّرتْ أمورُك فَمِنْك!. أنت وحدَك مَن في وضع القادر أن يعطِّل حركة انعطاف ربّك عليه!. لذا كانت وصاياه!. كلّ الوصايا لتفعيل وصيّة واحدة: أَحبّ!.

   كلّما عرفتَ ربّك، أو، بالأحرى، كلّما تركتَ محبّتَه تنسلّ إليك، كلّما وجدتُك في دهش حضرته!. تعود طفلاً كَمَن يفتح عينيه على الوجود لأوّل مرّة!. كلّ شيء يكون جديدًا!. الجديد في خليقة الله ليس أنّ فيها جديدًا، بل أن تراها بعين الله وتسمعها بأذنه!. لا جديد تحت الشّمس!. لا معنى للخليقة من دونه!. مآلها السّأم والموت!. إن لم تكن الخليقة نطاقَ حبٍّ فليست بشيء!. قيمتها أنّها من ربّها، وقيمتنا فيها أن نستدلّ بها عليه!. الخليقةُ كلمةُ الخالق؛ دورُها أن تسمع: كلمتُه تحيي؛ وجمالاتُها محبّتُه؛ وقعُها أن تلتمس وجهه!. ما كانت الخليقة لتكون إلاّ لتأتي بنا إليه، إلى ملكوته، إلى لاهوته!.

   خليقةٌ ملؤها الزّغل، لا مطرح فيها لحبّ!. تستحيل جحيمًا!. صليبًا بلا قيامة!. عالمٌ، جبُّ همومٍ ومشكلات، سكّانُه أغبياء!.

   “أُشير عليك أن تشتري منّي ذهبًا مصفّى بالنّار لكي تستغني، وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا يظهر خزيُ عُريتك” (رؤيا 3: 18).

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
14 أيلول 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share