نذهب إلى الفتنة طوعًا

الأب جورج مسّوح Wednesday October 15, 2014 185

اتّفق جمال الدين الأفغاني (ت 1897) ومحمّد عبده (ت 1905)، وهما رائدا الإصلاح الإسلاميّ في العصر الحديث، على أنّ مصدر الضعف والتراجع في المجتمع الإسلاميّ كامن في فقدان الوحدة ما بين المسلمين، وعلى أنّ العامل الأساس في عدم التوحّد كامن في الانقسام بين السنّة والشيعة.

وقد اعتبر الأفغانيّ أنّ أعداء الإسلام، وكان يقصد بهذا القول دول الاستعمار الأوروبيّ، استفادوا من التشرذم الإسلاميّ، فغذّوا الصراعات بين الدول الإسلاميّة سبيلاً إلى إضعافها وإخضاعها. لذلك دعا الأفغانيّ إلى انبعاث دولة إسلاميّة توحّد السنّة والشيعة تحت لوائها، وهذا لن يتمّ، وفق رأيه، قبل السعي الحثيث والجدّيّ على التقارب بين المذاهب الإسلاميّة السنّيّة والشيعيّة على السواء.

مرّت الأيّام والسنون والقرون ولم يتغيّر واقع الحال. وما زال أعداء الإسلام ينتفعون من الخلافات الإسلاميّة الإسلاميّة فيستغلّونها كي يبسطوا سيادتهم وهيمنتهم على بلادنا، ولنهب ثرواتنا… وعوض أن نتّحد لمقاتلة الأعداء نجد أنفسنا نتقاتل ونتصارع ونتذابح باسم الإله نفسه.

نعم، لم يتغيّر واقع الحال. فها الأفغانيّ، في نهاية القرن التاسع عشر، يكتب مقالة عنوانها “الغرب والشرق” يعرض فيها للسبل التي يطرقها الغرب للسيطرة على الشرق. هذه المقالة كأنّها كُتبت اليوم، ولـمّا يمرّ عليها زمن غير يسير.

يقول الأفغانيّ: “ما من دولة غربيّة، تطرق باب مملكة شرقيّة إلاّ وتكون حجّتها، إمّا حفظ حقوق السلطان، أو إخماد فتنة قامت على الأمير (…)، أو غير ذلك من البهتان والختل والخداع، وواهي الحجج. فإذا لم تكفِ تلك الأضاليل للبقاء، تذرّعت إمّا بحجّة حماية المسيحيّين، أو حماية الأقلّيّات، أو حقوق الأجانب، وامتيازاتهم، أو حرّيّة الشعب، أو تعليمه أصول الاستقلال، أو إعطاء الشعب حقّه، تدريجًا، من الحكم الذاتيّ، أو إغناء الشعب الفقير بالإشراف على موارد ثروته”.

يتابع الأفغانيّ قائلاً إنّ الشرقيّين يرجعون معلّلين أنفسهم بأنّ الغربيّين سيوفون لهم بوعدهم إذ يتركونهم “شعبًا حرًّا، مستقلاًّ بإدارة شؤونه، منتقيًا من أبنائه حكّامًا، من أنزههم نفسًا، وأحسنهم سيرةً وسيرًا، وأصدعهم بالحقّ قولاً وفعلاً”. أمّا ما يفعله الغربيّ فهو برنامج يحمله من بلاده مسطور فيه عن الشرقيّين: “شعب خامل جاهل متعصّب، أراضٍ خصبة، معادن كثيرة (هذا قبل ظهور النفط)، مشاريع كبيرة، هواء معتدل، نحن (أهل الغرب) أولى بالتمتّع بكل هذا”.

ويخلص الأفغانيّ في توصيفه إلى القول أنّ الغربيّ يضع خطّة للوصول إلى الاستيلاء على البلاد، وذلك عبر “إقصاء كلّ وطنيّ حرّ يمكنه الجهر بمطالب وطنيّة، وتقريب الأسقط همّة والأبعد عن المناقشة والمطالبة بالحقّ، والدخول على البلاد بتفريقها طوائف وشيعًا، فتؤثر طائفة على أخرى حتّى تستحكم النفرة من بعضهم فيضعون بأسهم بينهم”…

نعم لم يتغيّر واقع الحال. الغرب يستبيح أرضنا وسماءنا وبحرنا، يستعمرنا من جديد، ينهب ثرواتنا، يسلّط علينا حكّامًا مستبدّين، يعدنا بالحرّيّة والسيادة والاستقلال والديموقراطيّة وحقوق الإنسان… يكذب، ويكذب، ويكذب… لكن ينبغي ألاّ نلوم إلاّ أنفسنا، فالغرب يسعى إلى مصالحه، ونحن نتقاتل عبثًا، ونذهب إلى الفتنة طوعًا. “لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين”، وها نحن نُلدغ على الدوام.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 15 تشرين الأول 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share