جورج خضر ونهضة الكنيسة.
يقودك وجهُه الى حيث تحفُر الفُتوّةُ في الأعماق صوراً مرسومةً بألوان الجَهل ممهورةً بختم من دم. حينها كنتَ كياناً منسوجاً من فَقر، ممدوداً في الأزقّة الضيّقة، مطموراً بغبار ما قبل العهد الجديد. غبارٌ حجب عنك إيقونةَ الالهِ الدامع ونصبَ مكانَها نحتاً لاله قاسٍ جبّار يصدّ عنك العبورَ إلى مكمَن جُلجُلَةِ الحبّ فيك. فعَميتَ عن يد مسمّرة في ضعفاتك ترشَح ما تمسحُ به الألمَ والجَهل والدمع، ومعها عَميت عن أنّ هذا الذي ينبسطُ من جرح شبابك في أرض حارتك العتيقة إنّما هو ما لقحَّكَ به الله من ذلك السائل الذي به ترطّبت خشبةُ الصليب.
كنتَ شاباً تتمتم الصلاةَ حروفاً وخوفاً، هذا إن لبّيتَ دعوةَ جرَسِ الكنيسة واجباً. كانت الكنيسةُ مطرحَ تململ من اله لا معينَ لك عليه، يفرُض شعبُه طقساً لا تفهم منه أو تستسيغ غير الألحان. تلك التي أطلقتها آهاتُ القوم في أذنيك صرخةَ فخر واعتزاز تعلو على صوت السيّد.
وبقِيتَ، في الايمان، حيث يجب أن لا تكون. راوحتَ خارج الجماعة التي تستذوق الفداء، خارج جسرِ الحبّ الذي يربط الأرض بالسماء، حتّى ذلك اليوم الذي سرُّ فيه إليك أن كلمةً من ذاك الكلمة يصدَح بها نبيُّ حبٍّ ومعرفة في كنيستك، وأنّ الكلمات جُمّعت لتُبنى بها حركةُ نفضِ الغبار عنك. فكان لك أن صرت إبناً، كشفَ لك نبيُّ زمنِك بالأمس، وشيخُ أنبيائه اليوم، أن الله، الذي به تؤمن ومنه تخاف، محبّة، وأن الثالوث الذي به تقول محبّة، وأن العقيدة، التي أبقتك في استقامة رأي، لا منبَع لها ولا نكهة غيرَ المحبّة، وأنّك من تلك المحبّة وجدت وبها افتديت وتخلص. أنتَ، فيها، كلُّ شيء، وأنت خارجَها لا شيء. فلكَ، بعد هذا الكشف، أن تعوم فيها بحرّيتك لتذوقَ، وتعرِفَ، منها قدرَ ما تشاء. وكلّما ذُقت وعرَفتَ صرت سفيراً لكتاب الكلمة إلى أن تُحقّق قصدَ الله من الخلق وتصيرَ أنت الكتاب.
كلُّ حديث عن تأثيره في نهضة أَنطاكية، وهو ليس فكراً بل حالةٌ، يوجب الانطلاق من أنّ جورج خضر مرآةٌ لهذه المحبّة. سرُّ إبداعه، وتأثيرِه أنّ عِشقَه لله فاق كلَّ عِشق وفاض ولعاً بكلّ ما يَنهضُ بكنيسة المسيح ويعنيه. ومن بيت أبيه بدأ، البيتِ الذي غيّبت جمالهَ وتراثَه وغناه بشاعةُ التاريخ وأخطاءُ أهلهِ وخطاياهم. بدأ ورشتَه بسؤال واحد: كيف لي أن أُفهم هؤلاء أنهّم مُفتدَون لينهضوا الى “الانخراط في صميم يسوع” فتُمسَح عن عينيّ ربّي الدموع؟ وفي مسرى المحبّة بينه وبين الله ردّ عليه الروح: قد يكون الجواب في حركة الشبيبة الأرثوذكسية، فوثِق العاشق واستجاب.
في هذه الحركة، الطريق التي لا تُدرَك، على قوله، إلا بالحبّ بدأ جورج خضر ريَّ شرايينِ كنيسته بدم معرفة الله، ولا معرفة تعنيه غير تلك الصائرةِ بالعارف الى اتحّادٍ بالمصلوب. بدأ بناءَه في الشباب، معولِ النهضة، برجاء أن ينتقل به من الانفعال الى الفعل لعلّ فعلَه يكون تحريرَ كنيستِه من أسر تقليديتها الثقيلة “وحال اللاوعي وقيادتِها الى الوعي”. هذا دون أن تكتسبَ حركتُه ماهيّةً خاصّة، فلا أنا فيها، لأن “الأنا في الكنيسة هو المسيح، والأنا في الحركة هي الكنيسة”، والكلام له. لهذا لم يرَ بناءً بغير أن يسكُب الربّ كما عاينَه واختبرَه، وتذوّقَه وسكنَ فكرهَ في حيوية الشباب. ولم يلتمس ركيزةً للنهضة غيرَ المصالحة مع حياة الكنيسة، وأسرارهِا، وانجيلِ يسوع. صمَّ صراخُه الآذان “بغير قراءة الكتاب لا نهضةَ لكم”. بهذه المصالحة، التي دعاك اليها، تبدأ مسيرةَ توبتِك وتقبلُ تكليفَ الربّ لك، في جرن المعموديّة، بالمسؤولية الشخصيّة عن الكنيسة كلِّها. وبقراءة الكتاب تعرف سيّدَك، وتلاقي سعيَه إليك، إلى أن تتكّون منه وجهاً وقلباً وفكراً ليتكوّنَ فيك الملكوت. كان همّه، وبقي، أن يذوق الشبابُ ما ذاقَه من وصاله بالله صلاةً ويصبَّ فيه، وفي شعب كنيسته، ذاك الانبعاث الجديد الذي يكسر ما ألفوه. وإن عرَفتم كنيستي، بالأمس، وعايَنتم اليوم إيقونةَ الالتزام والفرح والخدمة والاستقامة التي تبزغ في وجوه آلاف الشباب، تدركون حجم ما كُسر وتَعون أن الرجل ليس مؤثّراً في نهضتها فحسب بل هو مهندسُ هذه النهضة وبانيها.
وأقلُّه، إضافةً، “حرّر” جورج خضر يسوع من أسر الجدران ومسح عنه ما يحجُب وجهَه الكونيّ، ومعه ما غيَّب عن الناس كونَ “جسدِه قلبَ العالم ورجاءه”. هو أفهمَنا، وأفهم المؤسسةَ الكنسية، أنّ كلّ ما في العالم محتضنٌ بتِنِيَك اليدين الممدوتين على الصليب، وأنّ كلَّ ما يحوطُ بنا ويصادفُنا ممّا نعتقدُه، جَهلاً، بعيداً عن الايمان، بما فيه “السياسة والفنّ والأدب والفكر والثقافة، إن حَمِل، خارج أسوار الكنيسة، وجهَ طُهر، وبان حقُّ الله فيه، كانت الكنيسة فيه”. أيضاً الكلام له. لذا قال جورج خضر “بأن يرمي الكنسيون أنفسهَم في تعمير العالم”، وربّى، بجرأة فكر وحضور، على الشهادة في المحيط لأن الله فيه. فصرخَ “أنا مرميّ في المصير العربيّ لكون سيّدي مرمياً فيه”.
داوى كنيستَه من أمراض مزمنة أخطرُها حجبُ الكأس المقدّسة عن المؤمنين ما يعني حجبَ اتحّادِهم بالربّ، وبعضِهم ببعض في الربّ. صدّ بجرأة الأنبياء أن تكون القنوات الأَسرارية التي تصل الربَّ بشعبه سرّاً محجوباً عن هؤلاء. عالج فيها العِداء للعقل والعلم والمعرفة. فلئن كان يقينُه أن المعرفة العلمية “دائماً مُطهّرة، واذا ثبتت فانها حقيقة من الله ثابتة في خلقه”، بسطَ العلم، المتصالح مع القلب، عتبةً من عتبات الصعود الكهنوتيّ المفرحة للربّ، وصار بالمعرفة، المقرونة بعقل متضّع، رَغبة الهية. فشعّـت في وجوهٍ كهنوتية شبابية كثيرة وبها وعى المؤمنون الكثيرَ من شؤون عقيدتهِم وطقوسِهم.
أهدى جورج خضر الجماعة الكنسية الى حريّة مذهلة في المسيح. الحريّةُ، التي على قوله، “تصير بالمطاع فرِحاً بتحدّي المطيعِ له في سعيه الى الحقيقة”. أهدانا حريّةً ترفع، حيث يجب، وطأة الأبوّة والرئاسة عن شرايين الأبناء ليسري ابداعُ الله فيها. هي الحريّةُ الانجيلية التي لا تربية على الخلق دون التربية عليها، والتي، بفَهمه للاهوت الفداء فيها، كسرَ هو، الأسقف، التسلّط الرئاسيّ في كنيستي. معه شهدت أنطاكية أسقفا،ً معلّماً، يُصغي لكهنةٍ وشمامسةٍ وأبناء ينبرون لمخالفتِه الرأي في أصعب مفاصل حياة الكنيسة وأدّقِها.
علّم أنّ الكنيسة جسدٌ الهي يحضر في الأرض حبّاً بجعلها سماء. أن تكون في العالم ولا تكون منه معناه أنك في صميم العالم رسول، يتعالى عن حاجات الآن وغاياتِه، لتشدّ الناس معك الى فوق وتنتظر، معهم الآتي. لهذا سار باترابه إلى خارج العُصبة، إلى أن يكونوا كنيسةً لا طائفة، جماعةً “لا تستثمر يسوع لمصالح وغاياتٍ طائفية وضيّقة” بل قوماً يحبّون الربّ لا غاية لهم غيرَ أن يستثمروا في الأرض خلاصاً.
فإن بنينا المؤسسات، أو أنشأنا الجمعيات “فليس من أجل أن نثبت هنا، ونفخر بأنفسنا ونملك” والكلام له. بل من أجل أن تسري طراوة يسوع في عروقنا و”نساعدَ الفقراء على أن ينتظروا، معنا، الملكوت بفرح”. إن عرَفت كنيسةُ أنطاكية بعضاً من حبّ العطاء وبات للفقراء في ضميرها موطئٌ ومكانةٌ، وتسابق أبناؤها، بعض الشيء الى حسّ الشركة، وبَهُت حضورُ الأغنياء والنافذين في صدارتها، فلأن جورج خضر قدّم لها المسيح منكسراً عند أقدام الفقراء.
عاش هذه الكنيسة يوماً كنيسةً جارحة. جَهلُ خدامِها بسيدهم يجرح. انهماكُها بذاتها يجرح. غُربَتُها عن هموم العالم تجرح. ألمُ الفقراء فيها يجرح. غُربة الشباب عنها تجرح. تماهي التسلّط فيها مع تسلّط التافهين عليها يجرح. رآها كنيسةً تحتاج في جهادها للنهوض الى ذلك الصلاة التي ترافقها من الجبال والوديان والبراري. رآها كنيسةً تحتاج، حسب قوله، “الى من يذكّرها أنّها تحتاج الله”، فدفع الرهبنةَ فيها من جديد. وإن عمّت، أكثر ما عمّت في أرجاء أبرشيته فذلك ليقينه “أن لا شيء يذكّر الكنيسة بحاجتها الى الحبيب مثل تلك التي حصر أصحابُها احتياجاتِهم وهمومَهم به وحده”.
ولعلّ كان هذا كلَّه ليصرخ الرجلُ فيك بعد تَعَب: سبيلُك للخلاص أن تكتفي بالله وحده، وتكون إبنَ الصليب، أينما اقتضى تكليفُ الروحِ لك أن تقيم. فلكَ وحدكَ يا ربّ.
يا سيّدي.
حنَّ الربُّ علينا يوم أبلَغَنا الرسالة من وجهك بكلمة وماء. وما رجاؤنا إلا أن ترأف رحمَتُه بخطايانا يوم يجلسُ على كرسيّ عدله مسحوراً بعِطر زمنِك فينا. فبالله، سيّدي أُصرخ بعد، رأفةً بنا وبالأبناء. أصرخ وقدّم لنا المسيح دموعاً. فإن نفوسنا أدمنتها تنهمر من نبع حبّ السماء، تغسُل ما يجرح عرش السيّد في كنيسته الأعماق.
رينيه أنطون