المؤسّسةُ القاتلة خدمة الموائد (١) – الأرشمندريت توما (بيطار)
لا بدّ من المؤسّسة، بشريًّا، ما دامت هناك جماعة. التّنظيم حاجة لا يُستغنى عنها. والتّنظيم بحاجة إلى إدارة. في الكنيسة أنت بحاجة، في المبدأ، إلى تنظيمٍ وإدراةٍ، مثلك مثل كلّ جماعةٍ، ولكنْ، بفارقٍ أساسيٍّ يتمثّل في روحيّةِ المؤسّسةِ. الكنيسةُ، أوّلاً، روحٌ ونبوّة!. ماذا نعني بذلك؟.
من يديرون المؤسّسة، بعامة، عرضة، أبدًا، لتجربتَين قاسيَتَين، قلّما توفِّران أحدًا: السّلطويّة والجشع!. بهاتَين يسودُ روحُ العالم!. طبعًا، في المؤسّسة سلطةٌ طالما هناك إدارة، وفيها مالٌ طالما هناك إنفاق!. نظريًّا، في المؤسّسة تؤدّي خدمةً لتسدّ حاجة. هذا، فلسفيًّا، يجعلُ قصدَ السّلطةِ الخدمةَ!. من أجل ذلك كانت السّلطةُ، منذ البدءِ!. لكنّ واقع الحال، بعامة، غير ذلك!. السّلطة، بالأكثر، تسلّطٌ، والخدمة استغلالٌ!. هذا، عمليًّا، تزويرٌ ولو طُبِّعَ!. لكنّ الكنيسة لا تحتملُ الزّيفَ، لأنّكَ إذا غضَضْتَ الطّرفَ عن الزّيفِ وآلفتَهُ، لم تعدْ الكنيسةُ كنيسةً!. كيف ذلك؟.
الخدمة، في الكنيسة، خدمتان متكافلتان متكاملتان: خدمة الكلمة وخدمة الموائد.
نبدأ بـ”خدمة الموائد”.
“الموائد” هي التّسمية التّراثيّة، المستمددة من سفرِ أعمال الرّسل، لخدمة الفقراء. والمقصود بـ”الفقراء”، تراثيًّا، وبالمعنى الأشمل، المحتاجون إلى كلّ أنواعِ الخدمات، الأساسيّة لحياة الإنسان، ممّا لا طاقة للفقراء على سدّها بأنفسهم. هذا يشمل الجائع والمريض واليتيم والمسنّ ومن شاكلهم. الكنيسةُ، أصلاً، أي جملة المؤمنين بالرّبّ يسوع المسيح، في مكان واحد، كانت تعتبرُ نفسها عائلةً للأب السّماويّ، معنيّة، مباشرة، بسدّ حاجات أعضائها. القاعدة، في ذلك، كانت أنّهم فيها إخوة، بتعيين وتكليف من السّيّد نفسه. أنتم إخوة فاحملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا أتمّوا ناموسَ المسيح!. لذا كلّ شيء بين التّلاميذ الأوائل، في نمط العيش، كان مشتركًا، حتّى إنّ من كان له ما يزيد على حاجته، لا يعود يقيم، بالشّراكة والمحتاج، في الفيض، ومن ليس له، لا يعود يقيم في العوز، لكي تحصل المساواة!. هذا الأسلوب في التّعاطي جعل أنّه لم يكن أحد من المؤمنين محتاجًا!. كان هذا كافيًا لسدّ الحاجات المعيشيّة الأساسيّة لأبناء الإيمان!.
في هذا السّياق، لم يكن أحدٌ ملزَمًا، قانونًا، بالعطاء. كلٌّ، بصورةٍ تلقائيّة،كان يلتزمه عن محبّة للرّبّ يسوع وإخوته الفقراء، كما ليسوع عينه شخصيًّا، طالما كان من الكنيسة، بالرّوح والحقّ!. الرّوح القدس، هنا، كان هو المرجع والضّابط الكلّ!. ما حدا بأن ينقّي كلٌّ، في الكنيسة، نيّته، ويسلك، على النّحو المذكور أعلاه، بمخافة الله، أو يكون داخلُه نجسًا دنسًا مكشوفًا للروّح!. والرّوح، إذ ذاك، كان يقطعه!. حادثة حنانيا وسفيرة، بهذا المعنى، معبّرة، على نحوٍ صارخٍ: لا أحد يقدر أن يكذب على روحِ الرّبِّ!. كلٌّ حرٌّ في أن ينضمَّ إلى كنيسة المسيح أو أن لا ينضمَّ، ولكنْ من انضمَ ألزم نفسه بالأمانة لها ليحيا، ومن انضمّ إليها عن رياءٍ وزغلٍ، كما فعل حنانيا وسفيرة، فقد حَكم على نفسه بالموتِ، لأنّه لا مفرّ من الوقوع بين يديّ الله الحيّ ومخيف!. في حال حنانيا وسفيرة، قضيا للتوّ ليكونا للكنيسةِ عبرة!. والقصد أنّ من راءى، فاستهان بالقدسات، يُقطَع ويُلقى في الظّلمةِ البرّانيّة، خارج دائرة الشّركة والحياة الإلهيّة، على نحوٍ منظورٍ أو غيرِ منظور!. هذا أبعد بكثير من موت الجسد، وأشدّ هولاً، بما لا يُقاس!.
أما المقامون على هذه الخدمة/الحاجة فكانوا من أبناء الإيمان، المنتخبين، المشهود لهم، المملوئين من الرّوح القدس والحكمة!.
ثمّ، كما في داخل الكنيسة الواحدة تعاضدٌ عضويّ عميق بين الإخوة، كذلك بين الكنائس، لا سيّما في أوقات المجاعة والكوارث الطّبيعيّة والحروب.
هذه زبدةُ الكلام!.
يُستخلصُ ممّا تقدّم أنّ خدمة الموائد، الّتي تؤدّيها المؤسّسة المنوطة بهذه الخدمة، تفترض توفّر أربع مسلّماتٍ. أولى هذه المسلّمات أنّ من تؤدَّى لهم هم الفقراء، والفقراء وحدهم، دونما محاباة للوجوه، لأنّها خدمة محبّة. وثانيها أنّ المَعين الّذي يُستمدَد منه العون لسدّ الحاجة المبتغاة هو المؤمنون الأكثر يُسرًا، لا سواهم، من غير المؤمنين. محطّ الاهتمام هنا هو المعطي؛ والعطيّة، حصرًا، هي ثمرة الإيمان الفاعل بالمحبّة في كبده!. بغير ذلك، العطيّة لا قيمة لها لأنّ الكنيسة لا تنظر إلى القيمة الماديّة للعطيّة بل الرّوحيّة لأنّ للرّبِّ الأرض بكمالها!. إذا لم يكن العطاء من فيض القلب المحبّ فباطلاً يكون!. عينُ الرّسول المصطفى، أوّلاً، على المؤمنين، لا على ما لهم!. لست أطلب ما هو لكم بل إيّاكم؛ قال (٢ كورنثوس ١٢)!. بعد ذلك يَطلب “الثّمر المتكاثر” (فيليبّي ٤) لحسابهم!.
أمّا المسلّمة الثّالثة فهي أنّ الجهاز المنظِّم للمؤسّسة مكوَّن من خدّام شمامسة، مختارين، لنعمة الله الّتي فيهم، مشهودٍ لهم بالتّقوى والحكمة والغيرة على بيت الله؛ عندهم موهبة خدمة الفقراء، في خطّ قول الرّسول بطرس: “ليكن كلّ واحد بحسب ما أخذ موهبة، يخدم بها بعضكم بعضًا” (١ بطرس ٤)!.
والمسلّمة الرّابعة والأخيرة هي أنّ خدمة الموائد مجّانيّة، لا بمعنى أنّها تُؤدّى بلا أجرٍ ماديٍّ فقط، بل، بالأَولى، بمعنى أنّه ليس ثمّة أجرٌ على الأرض يمكن أن يفيها حقّها لأنّها خدمة محبّةٍ، ولا يمكن أن تؤدَّى إلا بروح المحبّة، على غرار، ومِن، محبّة الله الّذي برّرنا، مجّانًا، بنعمته (رومية ٣)!. من هنا دعوة السّيّد لمن هم له: “مجّانًا أخذتم مجّانًا أعطوا” (متّى ١٠)!. ومن هنا قول بولس الرّسول لأهل كورنثوس أنّه مجّانًا بشّرهم بإنجيل الله (١ كورنثوس ١١)!. نِعَمُ الله لا تُشرى ولا تُباع!. في العمقِ، لا تجارة في الكنيسة كما في العالم تجارة!. أمّا المتاجرون بالتّقوى فيدعو الرّسول المصطفى إلى تجنّبهم!. التّجارة الحقّ، الوحيدةُ والعظيمة، هي التّقوى مع القناعة!. حسْبُ عبد الله القوتُ والكسوة، أما محبّة المال، الّتي هي أصل لكلِّ الشّرور، فتغرِّق النّاس في العطب والهلاك، وتُسقطهم في شهواتٍ كثيرةٍ غبيّةٍ ومضرّة (١ تيموثاوس ٦).
لا يمكن للكنيسة أن تكون غير ما هي إيّاه!. خدمة الموائد المرتكزة على المال تخلق مؤسّسة دهريّة في الكنيسة؛ ما يُطيح الكنيسة، إذ لا يعود الرّوح الفاعل، في تلك المؤسّسة، روح الله، بل روح العالم، الّذي، في شأنه، قيل: “محبّة العالم عداوة لله”!.
كيف تضرب المؤسّسةُ المعتبرة “كنسيّة”، إذا كانت دهريّة الرّوحِ، كيف تضرب الكنيسةَ؟.
لا تعود خدمةُ هذه المؤسّسة مجّانية!. لا تعود لها علاقة، من ثمّ، بالمحبّة!. تصبح مأجورة!. لك مال تتطبّب، ليس لك، تموت!. لك مال تتعلّم، ليس لك، ترتع في الجهل!. ربّما، إذا لم يكن لك، يدلّونك، وأقول عن الكنيسة، حيث بإمكانك أن تتلقّى خدمة من درجة “متواضعة” متدنّية!. الفقير في الكنيسة، يصير، بعامة، عبءً على الكنيسة، ويتأفّف منه الأكثرون، ويعملون على استبعاده، لأنّه “لا فائدة” منه، والفقراء كثر!. في هكذا مناخ، الأكثرون يتمسّحون بالفقير ويتاجرون بالفقير، ثمّ يتهرّبون من الفقير لأنّه… فقير!. هكذا تُختلس “خدمة الموائد” من الفقراء، لتّعطى للأغنياء!. فلا يبقى للفقراء سوى أن يأكلوا من الفتات السّاقط من موائد الأرباب، وأن يشربوا من دوسِ أقدامهم، ويَعتبروا ذلك إحسانًا عظيًما!. لا فقط يصير الفقراء مهانين، وجدانهم يُهان!.
المؤسّسة، في جسم الكنيسة، والحال هذه، تصبح كتلة سرطانيّة قائمة في ذاتها!. حياة سالبة!. هموم المؤسّسة تصبح كيف تُحسّن الخدمة لكي تربح أكثر، وكيف تربح أكثر لتوسّع المؤسّسة أكثر، وكيف تكبر المؤسّسة لتنافس سواها أكثر!. ثمّ، في دهاليز المؤسّسة، تعشّش الموبقات وتندلع الصراعات على السّلطة، ويتركّز الهمّ على المنافع الشّخصيّة!. فخرُ النّاس لا يعود بخدمة الفقير وتمجيد الله بل بالمؤسّسة وتمجيد النّاس؛ كم هي متطوِّرة، وكم هي عظيمة، وكم هي نظيفة…
هكذا تموت في الكنيسة قاعدة: من له يهتمّ بمن ليس له لتحصل المساواة!. وتوجِّه المؤسّسة طرْفَها شطر إنماء المداخيل والحملات الماليّة والاستثمارات الذّكيّة!. كلام المحبّة يضحى منحصرًا في المنابر والمسامرات بعدما تصير المحبّة محطّ كلامٍ لا أكثر، ولا تعود الشّراكة تُطعم خبزًا!. تستحيل أوابد متحفيّة!. زمانها يكون قد ولّى!. والباقي مؤسّسة مصادَرة غريبة عن النّاس والنّاس عن المؤسّسة!.
ما المحصّلة والحال هذه؟.
إذا لم يكن في المؤسّسة محبّة ولا مجّانيّة ولا شراكة ولا شمّاسيّة مشهود لها بالتّقوى والحكمة الإلهيّة، فما علاقتها، بعدُ، بالكنيسة؟ الكنيسة الحيّة لا تسمح طبيعتها بوجود مؤسّسات دهريّة سرطانيّة في صدرها، ولا تسمح بأن تُسمّى باسمها وتُحسَب عليها!. فإمّا تستعيد الكنيسةُ خدمةَ المؤسّسة لفقرائها، حصرًا، وهذا شبه مستحيل، في المناخ الوجدانيّ المسبيّ الرّاهن، وإمّا تموت الكنيسة، كجماعة، ولا يبقى، فيها، سوى بعض الوجوه، هنا وثمّة!. نربح المؤسّسة ونخسر الكنيسة!. تَعايش الكنيسة والمؤسّسة الدّهريّة، فيها، مستحيل!. فأمّا الاستغناء عن المؤسّسة، في الوقت الحاضر، فغير وارد!. إذًا ما الوارد؟!. أي متنفّس يبقى للوصيّة؟ تحدِّث عن الحياة ولا تُحيي!.
لا تُطفئوا الرّوح لئلاّ تموتوا في خطاياكم!.
ما الحلّ إذًا؟!.
تحتاج، اليوم، إلى مجانين بالرّوح، لتنقِذ الكنيسة!. حتّى الطهر لا يكفي!. الأطهار، في المناخ السّائد، يُفسَدون، أو يُحرَجون فيُخرَجون!. ناهيك عن العقلاء، بحسب هذا الدّهر، هؤلاء، بالتّأكيد، لا ينفعون!. يغرقوننا بالأكثر!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
17 أيار 2015