الإختيار – المطران باسيليوس (منصور)

mjoa Monday June 15, 2015 127

الإختيار – المطران باسيليوس (منصور)
مشكلة من مشكلات الإنسان عبر الزمن، وخلال مراحل حياته، الإختيار. لأن إمكانية الإختيار تتطلب عدة عوامل وامكانيات يجب أن تتوفر في الإنسان، وأهمها المعرفة – للتمييز – والشخصية الثابتة، أي الثقة بالنفس.
فالمعرفة كما يقول الرسول بولس نور، وبالتالي تضيء على الأشياء فيتضح ما هو مناسب، وما هو غير مناسب. أما التمييز. الذي يعتمد على المعرفة في جزء من مهمته إلا أنه نعمة من السماء تعطى لأصحاب هذه النعمة التي لا تقبل الشك في أحكامها ولا موضع له في ساحاتها.

الاختيارأما الشخصية الثابتة فهي الحائزة على المعرفة بالدرجة الأولى، وتتحمل مسؤولياتها، ولكنها لا تأخذها إعتباطاً، ولهذا في كثير من الأحيان، لا بل في أغلبها تصيب في ما ترتأيه. والشخصية الثابتة تكتسب في التربية التراكمية، والخبرة أي بالتمرين. هذه العوامل الثلاثة ضرورية للإنسان لكي يعرف كيف يميز الأشياء، يختار الغث من الثمين.
وقد قالت الكنيسة الأرثوذكسية بالتقليد في مجالات الحياة والإيمان الى أن الله يعطي إستنارة لشخص ما، لتجدد طرق الحياة، وسبلها بما يتناسب ومسيرة القداسة، وكذلك ما يناسب الكلمة الإلهية في الكتب المقدَّسة، وتعاليم الآباء القديسين. وبسبب نقص المعرفة قديماً قالت الأمثال: “الذي تريد أن تحّيِّرهُ خيِّره”.
وإذا اكتسب إنسان معرفة مغلوطة، أو ناقصة صار معرضاً في اختياره، وللخطأ.
مثلاً القديسان الرسولان يوحنا ويعقوب إبنا زبدى طلبا من الرب أن يجعلهما في مملكته أصحاب المراتب الأولى، واحد من عن يمينه، والأخر عن شماله. وكأنه سيقيم ملكاً أرضياً. فبالرغم من الإختيار الصائب أن يكونا مع المسيح ومن تلاميذه، وليس من تلاميذ الفريسيين إلا أنهما بسبب نقص المعرفة بالإلهيات، وبما يخص الملكوت الآتي، وقعا في الخطأ لأنهما طلبا ملكاً أرضياً بينما أكد السيد لهما وللتلاميذ أن مملكته ليست من هذا العالم. ووقع التلاميذ في الخطأ لأنهم إحتدوا غيظاً على التلميذين، وكأنهم فزعوا أن يسبقاهم الى مراكز الملك الأولى، وهنا ليس فقط عدم المعرفة الكاملة، بل المعرفة الخطأ، مع عدم الثبات في الشخصية.
والإختيار ليس عملاً بشرياً حول أشياء مادية، بل هو دعوة إلهية في كثير من الأحيان، والإنسان يجاوب عليها، أي له ردة فعل عليها.
قد إختار الله ارمياء لينقل كلمته الى الشعب، وقال له الله: “من البطن قبل أن تولد دعوتك”.
واختار الله الرسول بولس على طريق دمشق ليعلن اسمه أمام الولاة والحكام. تحدثنا سير القديسين عن الكثيرين الذين اختارهم الله ليقوموا بالمهمة ونجحوا فيها لأنهم لبوها من كل قلوبهم وأذهانهم وأفكارهم، وعاشوها بكل ما تقتضيه من واجبات وأعمال.
ولكن هناك مبادرة الله نحو الناس. فإما أن تكون ردة فعلهم ناقصة، واما أن تكون سلبية، ويحورونها لمصالحهم. فقد دعا الله الشعب اليهودي في العهد القديم، ولكن الشعب عاش هذه الدعوة، وحمل هذه المهمة كشيء خاص بملكه لمصلحته، وابتعد عن أسس المهمة التي اعطيت له فاستحق من الله كل تأنيب.
إختار الرب يسوع المسيح يهوذا ليكون شريكاً في المهمة الرسولية، ولكن يهوذا مزج بين الدعوة، وقناعاته الشخصية غير السليمة فسقط في شراك الموت.
قد تأتي الدعوة للإختيار من خلال جمل وكلمات من الكتاب المقدس، أو من خلال أشخاص قديسين، كما حدث مع القديس أنطونيوس، والقديس سمعان العامودي، وغيرهم وغيرهم فيعتبرون الدعوة موجهة لهم شخصياً فيتركون العالم ويختارون الله.
أيها الإخوة والأبناء الأحباء،
تتموضع حياة الإنسان بين المبادرة وردة الفعل على المبادرة. المبادرة نحو الخير هي دعوة إلهية دائماً أي تحريك نعمة الروح القدس لقوى الإنسان ليقوم بعمل صالح ما. فالروح يهب حيث يشاء وعلى الإنسان أن يختار بين دعوة الله، وبين دعوة العالم.
فالله يترك لنا حرية الإختيار والعالم يصنع المستحيلات والمخططات. ويضع العراقيل أمامنا لكي ينجح ويخضعنا لما يريده منا، وهكذا نقع في أغلب الأحيان في اشراك النقص والأسف حتى إننا صرنا معتمدين على ذلك، ومتعودين عليه، وصرنا غير قادرين على إختيار الشيء (بل صرنا مع كل هبة ريح نستريح) يأخذنا العالم في تياراته ولا قرار لنا إلا الموافقة والويل لمن يعارض.
نحن في أيامنا هذه أمام تبدلات هائلة تعصف بنا من كل الجهات، وتضرب عواصفها كلّ مواضيع الحياة الطبيعية. بدءاً بالأسرة والأولاد وتربيتهم، وصولاً الى الهوية، والموقف الوطني، والعلاقة بالأرض. فهل لنا أفضل مما اعتمد عليه آباؤنا لنختار الإختيار الصحيح. وقد اعتمدوا على ما أعطى الله في الكتب المقدسة من علوم الحياة، والمبادئ الإجتماعية الصحيحة، وثبتت صلاحياتها عبر العصور. وها نحن الذين نتركها نخسر كل شيء، العائلة، الأولاد، المستقبل، الوطن، التاريخ، الهوية. فإذا انجرفنا وراء الحياة الإستهلاكية أصبحنا كالإبن الشاطر مرميين في الوطن على هامش حياة الوطن، وفي المغتربات على هامش الحياة إذا لم يكن على قارعة الطرق. قال أحد الآباء قوة الأرثوذكسية في التقليد. فقد ثبت في الخبرة أنها الطريق التي تعلم محبة الإنسان، ومحبة الأرض، والعمل لأجل لأجل ملكوت السموات.
فاسأل الله وإياكم أن يلهمنا دائماً أن نختار طريقه حتى نصل الى معرفته معرفة تامة، ونحفظ ما يرضيه، وما يريدنا أن نجعله في معرفتنا، لنكون نحن والذين سبقونا إليه، والذين على الأرض يعيشون ما يرضيه شعباً ملوكياً، وأمة مقدَّسة.                            
نشرة البشارة
14 حزيران 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share