أفكار في التديّن – المطران سابا (اسبر)

mjoa Tuesday October 13, 2015 114

أفكار في التديّن – المطران سابا (اسبر)
أستخدم كلمة التديّن مُكرَهاً، كوني أمجُّها، فالمسيحيّة ليست ديناً بقدر ما هي طريقة حياة، كما ورد في أقدم كتاب عن تأسيس الكنيسة، أعني أعمال الرسل: “وحدث في ذلك الزمان شغب شديد على طريقة الربّ”(أع19/23).و “كان فيلكس(الحاكم الروماني لفلسطين) مطّلعاً على أمر الطريقة”(أع24/22). “الطريقة” تعبير يدلّ على أهمية البعد العملي للإيمان. وهذه التسمية ليست مستغربة لكون المسيحيّة ديانة تجسديّة؛ فتجسيد الإيمان في الحياة أمر بديهي فيها.

tadayonثمّة تفاوت كبير بين، ما يسمّيه علم الاجتماع الديني، الدين الحقيقي والدين الشعبي. الدين الحقيقي هو جوهر الدين والأسس العقائدية التي يقوم عليها، والروحانيّة التي تَسِمه وتنبع منه. أمّا الطقوس والعبادات والأخلاق وما إليها فتكون التعبير الطبيعي والمنظورلهذا الجوهر. هذا تلحظه، عادةً، قلّة من المؤمنين، الذين يسعون إلى أن يكونوا بمستوى إيمانهم ومتطلّباته. أمّا الدين الشعبي، فهو تطبيق الممارسات الدينية دونما فهم لجوهرها، والاكتفاء منها بما هو منظور ومحسوس، باعتبارها غاية بحدّ ذاتها. إنّه التوقف عند العادات والتقاليد التي تنشأ، مع الزمن، وتصير تراثاً اجتماعياً يميّز الجماعة الدينيّة. يطلب أتباع الدين الشعبي، وهم الأكثرية بين المؤمنين، عموماً، راحة الضمير و”شراء” رضى ربّهم، بقيامهم ببضع ممارسات يطلبها الدين. يكتفون بها، دون السعي إلى تغيير السيرة والأخلاق، وابتغاء السمو في الحياة وتجديد الذات باستمرار. هي عندهم بمثابة تعويذة أو تميمة تقيهم من الأخطار، أو تحفظهم في الاستقرار، أو تمنحهم وَهْمَ أمان كاذب.
انطلاقاً من هذا التفريق، يمكن فهم سلوكيات كثيرة في مسيرة حياة مؤمني أيّ دين. يرتاح البشر إلى ما يوافق أهواءهم، ويتناسب وكسلهم في الجهاد الروحي الداخلي، ويمنحهم، في الوقت ذاته، اكتفاءً مُرضياً في إتمام واجباتهم الدينية. وكأنّهم يريدون جمع الدين والدنيا سوياً. هم يحبّون العالم الساقط، ولا يريدون الخروج ممّا فيه من لذّات وشهوات ومتع، جلّها جسداني. تضحكني عبارة “متمماً واجباته الدينيّة” في ورقة النعوة!! ما هي هذه الواجبات؟ ولماذا يطلبها الله من البشر؟ وماذا تؤثر عليه جلّ جلاله؟ وعلى من تنعكس نتائج تطبيقها؟ أعلى الله أم على الإنسان؟
يُنتج الدين الشعبي تناقضاً مع الدين الحقيقي. فإذا أخذنا المسيحيّة مثالاً، نرى أنّها تقول بضرورة الصلاة وفائدتها، انطلاقاً من حاجة الإنسان إلى التحاور مع ربّه، وفتح قلبه له، واستلهامه في شؤون حياته. يعتبر الشعبيّون الصلاة هدفاً بحدّ ذاته. فتراهم يكتفون بالتردّد على الكنيسة في المناسبات، وتضحي الصلاة عندهم طقساً، له وجهه الاجتماعي، الذي قد يقتل وجهه الروحي الداخلي ويمحوه. فالصلاة عندهم واجب لله يؤدّونه فيتممون المطلوب!! وتالياً، لا يجدون ضيراً في اتّباع قيم بيئتهم وعاداتها، مهما كانت مخالفة للإنجيل ومضادّة له. الإنسان في المسيحية مَنْ يحتاج إلى الصلاة، وهو المستفيد منها، لا الله. يحمّل الشعبيّون الله منّة إذا أدّوها، لأنّهم يعتبرون أنفسهم أبراراً إذ أتمّوا ما طلبه الله منهم، وكأنه هو المحتاج إلى صلاتهم.
ترى بينهم من يحلف بالانجيل ويدافع عنه، وقد يتحمس للقتال إذا ما أُهين رمز من رموز دينه، بينما هو لا يسير، بالضرورة، بحسب تعاليمه، أو يحفظ وصاياه أو يهتدي به.
كذلك، تتعاطى الأكثرية مع المؤسسة الدينية باعتبارها مسؤولة عن إعالتهم ومساعدتهم وتسوية أمورهم المادّية المعاشية، لاغير. تراهم يهاجمون رموز المؤسسة الدينية بحقّ وبغير حقّ، لسبب أو لآخر. يقفون عند أخطائها وأشخاصها، وإذا ما وثقوا بأحد من رموزها، تبعوه إلى حدّ العبادة. ولكن، ولكونه إنساناً خطّاءً، لأنه ما من كامل سوى الله، تجدهم، إذا ما اكتشفوا عيباً ما عنده، أو لم يتجاوب ومبتغى لهم، يُصدمون إلى درجةٍ تؤثر على مجمل مسار حياتهم وشخصيتهم، وقد تجعلهم يقاطعون الكنيسة ويوقفون حياتهم الروحية.
لفتني أحد التعليقات التي وردت حول قصة الكاهن والحصان الأجرب: “يقولون إنّي لا أذهب إلى الكنيسة لأنني لا أحبّ هذا الكاهن. أو أنت تذهب إلى الكنيسة لتزوره أم لتصلّي لربّك؟”.
المؤمن الواعي يميز بين الجوهر والمظهر، لا يقف عند المظهر ويكتفي به، بل يطلب الجوهر، ويسعى إلى أن يكون المظهر تعبيراًأميناً ومستقيماً له. يجب أن لا تكتفي بمشاركة المحتاج، فقط لأنّ الإنجيل يطلب ذلك منك. عليك أن تسعى إلى محبّته، فتساعده وتشاركه لأنّك، بحسب الإنجيل، تحبّه وتعتبره أخاك وصورة المسيح.
يستسهل البشر إتمام ما هو ظاهري في الدين، بينما يستصعبون عيش جوهره. فالجوهر يتطلب تغيير الفكر والسلوك ونمط الحياة، وهذا ما لا طاقة لهم به. أن تكون لربّك، يعني أنّك له بالكليّة، تستلهمه فكراً وحياة وأخلاقاً وسلوكاً، تنظر إلى كلّ شيء، وتتعاطى مع كلّ شيء، من خلاله وعلى ضوء كلمته الإلهية، واختبارك لنعمته ورفقته لك في الطريق. أن تكون مسيحيّاً حقاً يعني أنك تسعى كي تماثل المسيح في كلّ شيء. تسأل نفسك وتقيّمها، على أساس واحد: لو كان المسيح مكاني فكيف كان يتصرّف؟ أمّا أن تصرف أويقات من وقتك، أو وريقات من مالك، من أجل اتقاء غضب الله، أو طلباً لاسترضائه، فهذا لا يدل على أمانة صافية، بل على منفعة ذاتية واستغراق في حبّ الذات.
كيف تعي استغراقك في المظهر على حساب الجوهر، أو ضعف قدرتك على تجسيد الجوهر في المظهر الملائم؟ فسؤال ليس جوابه سهلاً كما تظن. يساعدك إخوتك في ذلك، فشركتك الروحية معهم تقيك من التطرّف، كما تحفظك في التيقّظ. المتدين إنسان محبّ أو هو ساقط في وهم رهيب. فالفرق بين التدين الحق والتدين الشعبي هو عيش المحبّة. المسيحي الحق إنسان محبّ لله والناس، أو هو في ضلال مبين. لا تستطيع أن تحبّ ربّك وأنت لا تحبّالآخر، والعكس صحيح فمحبّتك للناس تقرّبك من ربّك وإن كنت لا تدري. قال دوستويفسكي: “الملحد الحقّ يقف على الدرجة قبل الأخيرة من التي يقف عليها المؤمن الحقّ”.
“أحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ ذهنك. تلك هي الوصيّة الكبرى والأولى. والثانية مثلها: أحبب قريبك حبّك لنفسك. بهاتين الوصيّتين ترتبط الشريعة كلّها والأنبياء”(متى22/37-40).

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share