بالقليل تقتني الكثير! – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Tuesday March 15, 2016 108

بالقليل تقتني الكثير! – الأرشمندريت توما (بيطار)

   سبق أن كتبتُ، عنّي وعنك، أخي وأختي. قلت: الإنسان، في الوقت الحاضر، حتّى في الكنيسة، متروك، بعامّة، كأنّه لا معين له. ثمّ قدّمت، في مقال ثان، اعترافًا يصحّ علينا، جميعًا، مع اختلاف في الدّرجة، فقط، بين الواحد منّا والآخر. قلت بصدق: كلّ إنسان كاذب. قراءة المقالتين ربّما حرّكت بعض النّفوس لأنّ مادّتهما واقعيّة جدًّا. أرجو ذلك. مَن رغب في معرفة ما في نفسه، وجد فيهما بعض مرآة لما في داخله، عميقًا. معرفة النّفس، وواقعنا، على حقيقته، أوّل الطّريق لإصلاح أنفسنا وواقعنا. أمّا مَن لا يعنيه الموضوع، فما كتبتُه قد لا تكون له قيمة لديه. في هذه الحال، أرجو الله أن يحرّك قلبه بطريقة أخرى، لأنّنا، جميعًا، سواسية بالنّسبة لواقع ما في عالم قلوبنا من أفكار وتفاعلات. وأنا لم أشأ أن ألقي أحدًا في اليأس، لذلك أكتب هذا المقال، اليوم، على الرّجاء!.

why   واقع نفوسنا الدّاخليّ، وَعَينا أم لم نعِ، غير سليم؛ وبإمكاني أن أقول: مريض!. الشّجرة تُعرف، ما إذا كانت صحيحة أم لا، من ثمارها. عندما يكون تسعة وتسعون في المئة من النّاس، نفوسهم غير مرتاحة، قلقين، مضطربين، محرومين من السّلام الدّاخليّ، فهذا معناه أنّ ثمّة خللًا ما، في النّفوس، يسبِّب هذه الحالة. لا أظنّني، في قولي هذا، أبالغ!. على الصّعيد الشّخصيّ، نادرًا ما أرى أحدًا مرتاحًا. أتكلّم على راحة النّفس. ولكن، حتّى جسديًّا، النّاس غير مرتاحين. إذا لم تكن النّفس مرتاحة، فحتّى لو أقام الجسد بلا عمل فإنّ راحته تكون متعبة!.

   السّؤال: لماذا؟ من أين يأتي هذا التّعب الدّاخليّ؟. هذا القلق؟. وحتّى، هذا الشّقاء؟. من الابتعاد الفعليّ عن الله!. شكليًّا، ربّما كان الله في الوارد لدينا، ولكن، ككلّ شيء آخر اعتدنا عليه، دون أن يكون له دور أساسيّ في حياتنا. عندما نحيا كأنّ الله، عمليًّا، غير موجود، فإنّه، ولو كان موجودًا في بعض الرّموز فينا ومن حولنا، الصّليب على صدرنا، والإيقونة في البيت، والكنيسة الخ… فإنّ وجوده لا يكون حيًّا، فاعلًا فينا. هذا يجعل الله، في حسِّنا، كأنّه صنم أصمّ!.

   اسمع (اسمعي) هذه القصّة الواقعيّة جدًّا. أحد أبناء الإيمان ذهب إلى الحلّاق. فيما كان الحلّاق يقوم بعمله، كان هو يقرأ في الكتاب المقدّس. لاحظه الحلّاق. ما إن انتهى حتّى قال له: لا تتعب!. الله غير موجود!. لو كان موجودًا لما كان هناك مثل هذا الحجم من الشّقاء في العالم!. لم يُجِب!. خرج من محل الحلاقة منزعجًا!. رأى، في الخارج، شابًا هيبيًّا أطال شعره. أتته فكرة. دخل إلى محل الحلاقة من جديد. أتعلم يا صاحبي؟. قال للحلّاق، لا تتعب!. ليس هناك حلّاقون في العالم!. أجابه الحلّاق: لِمَ تقول ذلك؟. أنا حلّاق!. أجابه الرّجل: لو كان هناك حلّاقون لما كان هناك أشخاص مثل هذا الشّابّ، طوال الشّعر بهذا القدر!. فضحك الحلّاق وقال له: أنا حلّاق فليأتِ إليّ، وأنا أقصّ له شعره!. أجابه الرّجل: هذه، بالضّبط، يا صاحبي، هي النّقطة!. الله موجود، ولكنّ النّاس لا يأتون إليه!. لو كانوا ليجيئوا إليه، لما كان هناك مثل هذا القدر الهائل من الشّقاء في العالم!.

   المشكلة العميقة، أنّ الإنسان لا يشعر بالأمان، في نفسه. محروم من السّلام الدّاخليّ. مهما حاول، شعوره بالقلق لا يذهب، لا بالأكل ولا بالشّرب ولا بالعمل ولا بالنّجاح ولا بالمال ولا بالقنية ولا بإشباع شهوات النّفس والجسد. مهما فعل، لا فقط شعوره بالقلق يبقى، بل يزيد. الأمان لا يأتي إلّا من الإيمان. وحده الله يعطيك سلامًا حقيقيًّا. ما تبقّى، سلام العالم اضطراب مبطّن. سلامي أُعطيكم، قال الرّبّ يسوع، لا كما يعطيكم العالم. في العالم سيكون لكم اضطراب.

   سؤالي لك، أخي (أختي)، أما تعبتَ، بعد، من حفر بئر لا يضبط ماء؟. إذا لم تتعب بعد، إذا كنت لا زلت تظنّ أنّك ستجد جوابًا لمعاناتك بالطّريقة الّتي أنت سالك فيها، فستُغيّر رأيك، ولو بعد حين. وإذا لم تغيّر رأيك، فستجد نفسك، أخيرًا، أمام طريق مسدود. وإذا لم يدفعك ذلك إلى تغيير موقفك العميق من الأمور، فلا أحد بإمكانه أن يعينك!. تحيا في وهْم وتموت في وهْم!. هذا يكون نصيبك. لك الحقّ أن تقيم في الضّلال، إذا شئت!. حتّى الله يعطيك هذا الحقّ. ولكنْ، هل هذا هو الجواب أن تأتي علينا ميتة سخيفة بعد حياة سخيفة؟!.

   سؤالي لك، إذًا، هو: أتريد أن يعينك الله أم لا تريد ولا تبالي؟. إذا كنت لا تريد ولا تبالي فلا داعي لأن تكمل قراءة هذا المقال؛ إلّا من باب الفضول، إذا رغبت، ولعلّ الفضول ينفع أحيانًا!. أمّا إذا أردتَ الله أن يعينك، فالأمر، بعامّة، سهل. أنا وأنت وكلّ واحد، بإمكاننا أن نأتي إلى الله، ونستعين به. لا نحتاج إلى وقت طويل، ولا إلى جهد شاقّ. في أيّ مكان، في أيّ وقت، بجهد بسيط، بإمكاننا، بكلّ تأكيد، أن نحقّق نجاحًا كبيرًا، لأنّ الله حيّ!. هو يعيننا. ولكن بشرطَين: إذا كانت لدينا النّيّة الصّادقة، بكلّ معنى الكلمة. وإذا ثبتنا في أدائنا للقليل القليل الّذي نؤدّيه. الخميرة قليلة جدًّا ولكنّها تخمّر العجين كلّه، لأنّ فيها قوّة تخمير. هكذا نعمة الله، متى قبلناها، مهما كانت يسيرة فينا، فإنّها، قليلًا قليلًا، تغيِّرنا وتغيِّر حياتنا كلّها، لأنّ فيها قوّة تغيير إلهيّة!. هذا تعرفه بالخبرة. أنت حرّ في أن تصدِّق أو لا تصدِّق. ولكن الأمر هكذا حقًّا. تعالَ وانظر!.

   إذًا، لا مشاكلك، ولا هموم عملك، ولا قلّة وقتك تعيق. إذا كانت الإرادة حاضرة لديك، وإذا ثبتّ في حفظ ما سأقوله لك، فلا صعوبة تعرقلك. الأمر يأتي من ذاته. الخطوة الّتي تخطوها مع الله تدفعك إلى خطوة أخرى، والأخرى إلى أخرى، وهكذا دواليك. وفيما أنت تسير قُدُمًا تلاحظ أنّ ثمّة أمرًا جديدًا منعشًا يدخل إلى حياتك. حتّى القليل الّذي تقوم به تجدك تنتظره بشغف. لعلّك لم تقرأ المزمور 18؟. لا أتوقّع أن تكون قد عرفته!. ولكن اسمع!. “فروض الرّبّ مستقيمة”، قال داود النّبيّ، “تفرِّح القلوب. وصيّة الرّبّ وضّاءة تنير العيون” (18: 8)!. وهكذا، قليلًا، قليلًا، تطلب المزيد، وشيء حقيقيّ، بالفعل، يتغيّر في نفسك!. القدّيس إسحق السّريانيّ كان يقول: “المحاولة الصّغيرة لها فعاليّة كبيرة عندما تتمّ بشكل دائم”!.

   ماذا أقصد عمليًّا؟.

   عندك هموم؟. عليك بالاعتراف لدى الكاهن، من وقت لآخر، ولكن بشكل منتظم. لا تعرف ماذا تقول لأنّه لم يسبق لك أن اعترفت؟. ابدأ بما تعرف!. نظرتُ إلى امرأة نظرة غير نقيّة!. تفوّهتُ بكلام قبيح!. قلتُ قولًا جارحًا في حقّ بعض النّاس!. قبلتُ رشوة!. كذبتُ لأُخفي عملًا آثمًا ارتكبته!. وأمثال ذلك من أمور: أفكار شرّيرة، أقوال نابية، تصرّفات مؤذية!. الكاهن، من هناك، يساعدك. يقول لك ما ينبغي عليك أن تفعله. وكلّ ما يطلبه منك افعله بأمانة كما أمام الله وضميرك!.

   لا وقت لك للصّلاة؟. لا بأس!. فيما تغسل وجهك وتسرِّح شعرك، قل: يا ربّي يسوع ارحمني، واجعل هذا النّهار مبارَكًا كما تريد. وقبل أن تباشر عملك قل: يا ربّي، بارك عملي، في هذا اليوم، وأعطني، فيه، أن أكون أمينًا لك، واصرفني عن كلّ عمل لا يرضيك!.

   إلى ذلك، أدِّ، أقلّه، عملَ محبّة واحدًا، كلّ يوم!. افتقد أحد المرضى، ولو هاتفيًّا!. ساعد أحدًا يحتاج إلى مساعدتك في المكتب، في المدرسة، في محلّ عملك. أَعِنْ فقيرًا… ما يرسله الله لك افعلْه، لأنّ كلّ ما يحدث في يوميّاتك إصبعُ الله فيه!.

   لا تحتاج إلى أكثر من ذلك في البداية. افعله بوعي وثبات، وهو ينمو فيك من ذاته. يكفيك، بما قلته لك، أن تفتح لربّك بابًا يدخل منه إلى حياتك. الله لا يقتحم أحدًا. ولكن مَن فتح له دخل إليه وتعشّى معه، أي صار عشيرًا له. صار بينه وبين الله خبز وملح. من هناك تبدأ الرّحلة إلى الفرح، إلى السّلام، إلى الملكوت. لا يمرّ عليك وقت طويل حتّى تكتشف، بنفسك، أنّ الله يعينك ويعزّيك ويبارك سعيك وينمّيك. المبتدئون، دائمًا، يُسْبِغ عليهم ربُّهم بركاته سريعًا، ليتقوّوا ويتشدّدوا. لا ربّك ظالم ولا بخيل ولا غير مبال. محبّته لك تفوق التّصوّر!. كلّ ما تحتاج إليه أن تفتح قلبك. ذوقوا وانظروا ما أطيب الرّبّ. بعد ذلك كلّ شيء يأخذ لديك في التّغيّر. ثقْ بما أقوله لك!. سلام الله عليك!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
13 أذار 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share