الكنيسة تتّسع للجميع – المطران سابا (إسبر)
(مقال نشر في مجلّة النّور، العدد الثالث، 2010)
أيّ تنظيم كنسيّ عليه أن يكون تعبيرًا صحيحًا عن الإيمان، وإلاّ فإنّه يحوّل الكنيسة إلى مؤسّسة من هذا الدهر، عدا أنّه يشوّه مفهوم كنيسة المسيح. طالما أنّ الإيمان المسيحيّ واضح ومعروف، فواجب المسيحيّين أن يجسّدوه في كنيستهم المنظورة على الأرض. ما من أمر ممكن أن يتمّ إلاّ وينبغي أن تكون له غاية محدّدة، ويهدف إلى أمر بعينه أو أكثر. الإيمان يرسم الهدف، ويُلهم التنظيم والترتيب، وهما بدورهما يعكسان الإيمان في حياة الكنيسة
فعلى سبيل المثال، يقول إيماننا بشركة المؤمنين، شركة حقيقيّة لا وهميّة. كيف تتجسّد هذه الشركة في حياة الكنيسة؟ هذا يستلزم تنظيمًا للمال يؤكّد حياة الشركة ويحقّقها، وتنظيمًا للعلاقات تظهر عبره المحبّة التي تحكم أعضاء الكنيسة الواحدة، وتقوّيها. أمّا استعارة تنظيم ماليّ مؤسّّساتيّ آخر، مهما كان رفيعًا، فهو لا يخدم الروح المسيحيّة، ولا يعبّر عن كنيسة المسيح
وإذا كانت محبّة الفقير والمريض والمتألّم طلبًا رئيسًا في المسيحيّة، فعلى المسيحيّين أن يهتمّوا بنهج خدمة هؤلاء المحتاجين، حتّى يجعلوا مؤسّّساتهم الخيريّة محكومة بروح الإنجيل الذي لا يعطي المحتاج حاجته المادّيّة، دونما اهتمام بشخصه، والذي يجعل المعطي ممتنًّا من الآخذ لأنّه يعطيه فرصة الحصول على بركة بمساعدته
وهكذا ما من أمر يمكن أن يتمّ في الكنيسة بعيدًا عن المفهوم الإيمانيّ الذي سكبه اللاهوت المسيحيّ في صيغ وعبارات وقوانين إيمان واضحة للجميع
ربّما ينطبق هذا الكلام على مفهوم الكنيسة من حيث إنّها شعب اللَّه. فالإيمان الأرثوذكسيّ يؤكّد أنّ جميع المؤمنين المعتمدين باسم الآب والابن والروح القدس، والممسوحين بمسحة الميرون المقدس قد تكرّسوا للَّه تكريسًا كاملاً، وصاروا كهنة ملوكيّين يقدّمون العالم وما فيه، وحياتهم هم أوّلاً للربّ تقدمة مرضيّة لعزّته الإلهيّة. حسب قول الرسول بطرس في رسالته الأولى: “أنتم أيضًا حجارة حيّة فقدّموا أنفسكم لبناء بيت روحانيّ للكهنوت المقدّس، كيـما تقرِّبوا ذبـائح روحيّة يقبـلها اللَّه إكرامًا ليسوع المسيح… أمّا أنتم فإنّكم ذرّيّة مختارة وكهنوت ملوكيّ وشعب اصطفاه اللَّه للإشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب. لم تكونوا شعبًا من قبل، وأمّا اليوم فإنّكم شعب اللَّه، كنتم لا تنالون الرحمة، وأمّا اليوم فتُرحَمون (1بطرس 2: 5 و9 و10)
بموت المسيح على الصليب، انشقّ حجاب الهيكل، وصار شعب اللَّه الهيكل المسيحيّ الجديد الذي هو هيكل حيّ يؤلّف أفراده المسيحيّون حجارته الحيّة (1بطرس2: 5). فقد “جعل منّا ملوكًا وكهنة لإلهه وأبيه، فله العزّة والمجد إلى أبد الدهور” (رؤيا 1: 6). “وجعلت منّا ملوكًا وكهنة لإلهنا، ونحن نملك على الأرض” (رؤيا 5: 10). أمّا المخلَّصون، فيقول عنهم سفر الرؤيا: “يكونون كهنة اللَّه والمسيح، ويملكون معه ألف سنة” (20.6).
كيف نفسّر وجود إكليروس وعلمانيّين في الكنيسة؟ وما مفهوم كلّ منهما؟
إذا قرأنا العهد الجديد، وبالأخصّ أعمال الرسل، والرسائل البولسيّة والجامعة، بتأنٍ وهدوء، فنجد أنّ كلّ شعب العهد الجديد الذي اقتناه اللَّه يؤلّف الـkleros أي نصيب اللَّه، وكلّ عضو فيه هو klerikos، أي إكليريكيّ (كنيسة الروح القدس، صفحة 50).
“أطلب إلى الشيوخ الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلن، ارعوا رعيّة اللَّه التي بينكم نظّارًا، لا عن اضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبةton klerikon بل صائرين أمثلة للرعيّة” (1بطرس5: ١-٣).
“وأمّا أنتم فللمسيح، والمسيح للَّه” (1كورنثوس3: 23)
كما يؤلّف المسيحيّون شعب اللَّه Laos tou Theou، هؤلاء المسيحيّون الذين لم يكونوا شعبًا من قبل، الآن يصبحون الكنيسة، شعب اللَّه. وكلّ مؤمن منتسب إلى هذا الشعب هو علمانيّ Laikos، أي فرد من شعب اللَّه.
يقول الأب (أفاناسييف): “لا يمكن أن يكون أحد في الكنيسة من دون أن يكون علمــانيًّا، laikos، أي عضوًا في شعب اللَّه”، (كنيسة الروح القدس، صفحة 44) وأيضًا: “المسيحيّون هم أعضاء الكنيسة فإنّهم يكونون للمسيح، وبواسطته يكونون للَّه. وحيث إنّهم علمانيّون، أي أعضاء شعب اللَّه “في المسيح”، فهم أنصبةklerikoi اللَّه، أي إكليريكيّون. ولأنّهم إكليريكيّون klerikoi، فهم علمانيّون .laikoi
شعب اللَّه المكرّس كهنة يحتاج إلى خدمات متعدّدة. هذه يوزّعها الروح القدس وفق ما يراه. لم تعرف كنيسة الرسل الفصل بين إكليريكيّين وعلمانيّين كما نتصوّره نحن، ولم تعرف حتّى لفظتي “علمانيّ” و”إكليريكيّ” (أفاناسييف). عرف اللاهوت المسيحيّ وبخاصّة في الكنيسة الأولى مبدأ المواهب، الذي بحسبه يتمّ العمل في الكنيسة، وفق المواهب التي يوزّعها الروح القدس على المؤمنين بحسب الحاجة. وعلى هذا ظهر المعلّمون والمتنبّؤون. »فأنتم جسد المسيح، وكلّ واحد منكم عضو منه. والذين أقامهم اللَّه في الكنيسة هم الرسل أوّلاً، والأنبياء ثانيًا، والمعلّمون ثالثًا، ثمّ هناك المعجزات، ثمّ مواهب الشفاء، والإسعاف وحسن الإدارة والتكلّم بلغات (1كورنثوس 12: 27- 28)
وهو الذي أعطى بعضهم أن يكونوا رسلاً وبعضهم أنبياء وبعضهم مبشّرين وبعضهم رعاة ومعلّمين، ليجعل القدّيسين أهلاً للقيام بالخدمة لبناء جسد المسيح« (أفسس 4: ١١- ١٢)
بدأ الرسل بتأسيس الكنيسة، ورسموا، في كلّ مكان، أساقفة، ليرعوا كنيسة اللَّه بدلاً منهم، لأنّهم كانوا مضطرّين إلى الترحال الدائم، ليؤسّّسوا شعبًا للربّ في كلّ مكان، استجابة منهم لنداء البشارة. وحلّ الأسقف محلّ الرسول، ليتابع خدمة الأسرار والتعليم والافتقاد (الرعاية). اتّخاذ الأسقف مكانة الرسول في الجماعة المحلّيّة، جعله الإمام في الإفخارستيّا والواعظ فيها، وتاليًا ارتبطت خدمته بتأمين الخدمات الثلاث التالية: الأسرار والتعليم والافتقاد. احتلال الأسرار مكانة رئيسة لا غنى عنها في الكنيسة، جعل الأسقف يتبوّأ المركز الأوّل، لأنّه هو الأوّل في إقامة سرّ الإفخارستيّا، ولأنّ الوعظ يتمّ في القدّاس الإلهيّ، لذا ارتبط التعليم بالأسقف مباشرة، ولكونه هو الذي يعطي البركة صارت الرعاية ملقاة على عاتقه أوّلاً. من هنا، يعتبر التعليم العقائديّ المعاصر أنّ الخدمة في الكنيسة تتحقّق في ثلاثة مجالات: السرّ والتعليم والرعاية، أي الخدمات التقديسيّة والتعليميّة والرعائيّة
لكنّ تعدّد الكنائس في المدينة الواحدة بسبب ازدياد عدد المؤمنين في ما بعد، وبخاصّة مع ظهور الأبرشيّات، كوحدة تنظيميّة كنسيّة، استدعى الأسقف أن ينتدب كاهنًا أو أكثر لكلّ كنيسة، ليتمّم عمل الأسقف في الأسرار والتعليم والرعاية. كما أنّ تعدّد الحاجات الرعائيّة وتنوّع طرائقها، استلزم منذ العصر الرسوليّ المبكر إقامة أشخاص »مشهودًا لهم ومملوئين من الروح القدس وحكمة« (أعمال 6: 3) على تتميم هذه الحاجات لخدمة المؤمنين. وهؤلاء من اعتبرهم تقليد الكنيسة الشمامسة الأوائل.
أسباب عديدة، عبر التاريخ، أدّت إلى ضعف الكهنوت الملوكيّ أحيانًا وإلى سقوطه في غياهب النسيان. هذا وصل في الكنيسة الكاثوليكيّة إلى حصر كلّ الأعمال الكنسيّة (التعليم، الرعاية، أعمال المحبّة…) في فئة الإكليروس، وأدّى إلى تعليم لاهوتيّ يقول بمفهوم الكنيسة المعلِّمة (الإكليروس) والكنيسة المتعلِّمة (الشعب المؤمن). وإن كان الميل اليوم في دوائر هذه الكنيسة إلى إشراك المؤمنين أكثر فأكثر في الخدمات الكنسيّة
في الكنائس الشرقيّة القديمة (السريان والأقباط والأرمن…)، ما تزال كلمة الشمّاس تُطلق على العلمانيّ الذي يُقيمه الأسقف لخدمة محدّدة ولا يلتحق بشريحة الإكليروس. فالأقباط، على سبيل المثال، يطلقون اسم شمّاس على المرتّل الذي يرافق الكاهن في خدمة العبادة. ومع نمو الخدمات الكنسيّة عندهم في العقود الأخيرة، درج استعمال كلمة الخادم (وجمعها خدّام) لتعريف الذي يقوم بدور تعليميّ أو اجتماعيّ في الكنيسة
أمّا في الكنيسة الأرثوذكسية، فبقي دور العلمانيّين فاعلاً وإن اختلف مع الزمن من مكان إلى آخر، وحتّى في المكان الواحد. عرفت الكنائس الأرثوذكسيّة أنماطًا تنظيميّة مختلفة لاشتراك العلمانيّين في خدمتها على كلّ الصعد. إلا أنّ الأمور ليست بالسلام المطلوب في كلّ مكان
فقد حُفظ دور المؤمنين في إدارة الكنيسة مع الأسقف، ولو مشوّهًا وممسوخًا، في الأنظمة المتنوّعة التي عرفتها الكنائس الأرثوذكسيّة عبر التاريخ، والتي ابتغت تنظيم المشاركة بين الإكليروس والشعب المؤمن في خدمة الكنيسة، وقامت الظروف التاريخيّة بدور مهمّ في صوغها وتشكيلها. ما جعل المفاهيم تزداد تشويشًا واضطرابًا. ففي كنيستنا الأنطاكيّة، ولأسباب التاريخ القاسي الذي مرّ عليها في القرون الأخيرة، برز دور العلمانيّين الوجهاء بدل الموهوبين. فبدلاً من أن يقوم المؤمنون بخدمة الكنيسة، بحسب تقواهم والمواهب التي منحها الروح القدس، برز، في أغلب الأحيان، دور المؤمنين بحسب امتلاء جيوبهم وقدرتهم على الإنفاق على الكنيسة واحتياجاتها، وهذا نجم عنه تسيّد ذوي النفوذ الماليّ والاجتماعيّ، وأحيانًا السياسيّ في الكنيسة، وتشويه وجهها الروحيّ. ما ساهم في جعلها تبدو مؤسّّسة دنيويّة أكثر ممّا هي إلهيّة
يظهر أنّ صفاء التناغم بين الإكليروس والعلمانيّين في الكنيسة الأرثوذكسيّة، بقي محفوظًا في الإفخارستيّا، حيث يجتمع الشعب حول الأسقف الذي يتقدّم الشعب أو يؤمّه في الصلاة. وبقي التعليم العقائديّ يمنع الأسقف والكاهن إقامة القدّاس الإلهيّ من دون حضور الشعب. ما يعني أنّ الشعب ما يزال يمارس كهنوته الملوكيّ، أقلّه في القدّاس الإلهيّ، وإن كان معظم المؤمنين لا يعرفون هذا الأمر. وكم نحتاج حاليًّا إلى أداء ليتورجيّ ينقل المؤمنين من دور »المتفرّج« إلى دور المشارك الحقيقيّ
تشهد الكنيسة اليوم صراعًا هادئًا بين الإكليريكيّين والعلمانيّين. فمن جهة العلمانيّين، تراجع نفوذ ذوي المال والسياسة في العقود الأخيرة، واشتدّت وطأة الحياة الاقتصاديّة، وتوسّّعت المدن كثيرًا عمّا كانت عليه قبل أربعين عامًا، وعمّ نمط الحياة المدرسيّة، ما أخّر الشابّ في العمل وتأمين مدخول مادّيّ. إلى ذلك، شاع نمط الحياة الاستهلاكيّة والدوام الوظيفيّ الطويل، واشتدّت وطأة الحياة الاقتصاديّة، هذا ساهم، إلى جانب استعادة متصاعدة لدور الإكليروس الذي كان مفقودًا، في تراجع دور العلمانيّين في الكنيسة. إضافة إلى هذه العوامل برز في الجانب الإكليريكيّ، إكليروس رفيع الثقافة والفهم قام بدور لم يكن مألوفًا في الرعاية والتعليم، بشكل خاصّ، وأدّت المطرانيّات والرعايا، نتيجة ذلك التطوّر الإيجابيّ، دورًا لم يكن معروفًا من قبل على صعد عديدة. هذا نجم عنه بروز دور الإكليـروس وكأنّه يديـر كــلّ شيء، وساهم إلى جانب العوامل السابقة الذكر، في تراجع دور العلمانيّين، حتّى وصل الأمر في بعض الأماكن، إلى تحميل الأسقف وحده مسؤوليّة تعمير الكنائس، ما عزّز انتشار مفهوم يحصر المسؤوليّة بالإكليروس ويعفي العلمانيّين من مسؤوليّتهم، إلاّ في مجالي طاعة الإكليروس وتنفيذ توجيهاته
سيطرة شبه مطلقة للعلمانيّين كانت سائدة في الماضي، حتّى الستّينات من القرن العشرين، يقابلها منذ فترة تنامي سيطرة مقابلة للإكليريكيّين. كانت نتيجة النمط الأوّل الإكليروس الضعيف الذي ينحصر عمله في إقامة الأسرار، والمُستبعد عن كلّ عمل مؤسّّساتي تعليميّ أو اجتماعيّ، وغير القادر على تعليم الشعب، وغير مؤهّل للوعظ، ويفتقد سبـل الرعايـة. أمّا نتيجة النمـط الثاني، فإكـليروس يعتقـد بـأنّه مؤهّل للقيام بكلّ الأدوار والمهامّ. يطالب العلمانيّين بطاعته، والعمل بتوجيهه من أجل نهضة الكنيسة. يتوسّّع مفهوم غريب مفاده »رئيس ومرؤوس، ربّ عمل وعمّال«. ما يستدعي عند العلمانيّين ردود فعل هنا وثمّة، تختلف في ارتفاع وتيرة معارضتها لواقع كهذا. منها من ينكفئ ومنها من يعــارض بكلّ السبل المقبولة وغير المقبولة
ظهور بوادر النهضة الكنسيّة مع التزام المؤمنين نهضة كنيستهم روحيًّا وتعليميًّا، والتي ازدادت في ما بعد، وأعطت معهدًا لاهوتيًّا، وكهنة مخلصين ومتعلّمين وقادرين على القيام بواجباتهم، أدّت، تحت الضغط والتهميش السابقين ومعارضة العديدين، إلى دعم الروح الرعائيّة الناشئة، إلى تفرّد بعض الإكليريكيّين بمصادر القرار ومتابعة سيرهم فيه خوفًا من إيقافه إذا تسلّمه علمانيّون. ما استتبع تغييبًا قد يكون غير مقصود لدور العلمانيّين، ونشوء تعليم جديد يقول بلزوم ترؤس الإكليريكيّ لكلّ شاردة وواردة في الكنيسة، وإلا بطلت أن تكون أيّة خدمة، مهما كانت عظيمة، كنسيّة
في حين ما يزال العلمانيّون في أماكن كثيرة، ودوائر كنسيّة عديدة، يتصرّفون بكامل حرّيّتهم، وكأنّهم أصحاب القرار الوحيدين، مستبعدين الإكليريكيّين من ساحة عملهم، أو يعتبرونهم موظّفين، لديهم لخدمات يحدّدونها هم، ما يغيِّب الروح الكنسيّة وبعدها الروحيّ وحتّى الإنجيليّ عن مؤسّّسات كنسيّة عديدة
تفيد قراءتنا السريعة هذه، إلى أنّنا ما زلنا في الفعل وردّ الفعل، والنتيجة أنّ الكنيسة مقصّرة عن القيام بالخدمات المطلوبة منها اليوم وهي أكثر من أن تعدّ. أيّ صراع من أيّ نوع كان في الكنيسة هو خسارة لها. أيّ تطرّف ليس من الروح الأرثوذكسيّة. أيّ تغييب لأحد الطرفين يتعارض مع التعليم الأرثوذكسيّ. الكنيسة الأرثوذكسيّة، لكونها مؤسّّسة إلهيّة، قائمة على التناغم بين الروح القدس والنفس البشريّة، بين العلمانيّين والإكليريكيّين، بين المتعلّمين والمعلّمين، بين الرهبان والكهنة، الإداريّين والروحانيّين، المنظّرين والعمليّين
كم نحن بحاجة إلى وعي أنّ الفرق الأساس بين الشعب والإكليروس حاصل من تنوّع الخدمات، وأنّ هذا التنوّع ليس مقامًا من سلطة كنسيّة، ولا من بعض جماعة الإكليروس، بل نابع من مفهوم الكنيسة ذاته
بدون الإكليروس تخسر الكنيسة دورها الخلاصيّ، وتصير مجرّد مؤسّّسة دنيويّة، وبدون العلمانيّين تتقلّص الخدمات الكنسيّة، وتقصّر الكنيسة عن القيام بأبسط أدوارها. روح اللَّه يهبّ حيث يشاء. فلا الإكليروس يحصره ولا العلمانيّون يسيطرون عليه.
الحاجة ماسّة إلى سيادة روح التكامل لا روح التنافر، روح التقارب لا روح التباعد. الرعاية الفضلى رعاية متخصّصة، ليس بمقدور الكاهن مهما كان عظيمًا ونادرًا أن يقوم بها وحده اليوم. وليس بمقدور العلمانيّين أن يقوموا بها من دون الأسرار الكنسيّة، وبعدها الروحيّ الخلاصيّ، وتاليًا الأمر منوط بالإكليريكيّين.
نحن بحاجة إلى استعادة مفهوم الكهنوت الملوكيّ، ووعي قضيّة تكريس المؤمنين الكامل للَّه في سرّيْ المعموديّة والميرون، ومعرفة أنّ سرّ الكهنوت ليس تكريسًا حصريًّا، بقدر ما هو موهبة خاصّة يمنحها الروح القدس لأشخاص ينتقّيهم للقيام بدور أساس في الكنيسة.