رؤئ في الرعاية : (ضوء على كتاب) – جورج ناصيف

mjoa Friday August 12, 2016 111

GNassif

رؤئ في الرعاية

(ضوء على كتاب)

جورج ناصيف

سأستعير من الروائيّة التي تقطر موهبة “هدى بركات” عنوان كتابها “سيّدي وحبيبي” فيما أمامي كتاب الحبيب المطران جاورجيوس “رؤى في الرعاية”.

سأخرج على جاري المألوف من قواعد وسنن تعمل تشريحًا في الكتب وأصحابها، لأبسط ثلاثة اعترافات تثقل عليّ.

أوّلها أنّي أشقى كلّما قرأتُ المطران جورج. أشقى لأنّه كثيف ومضغوط وناريّ وفسيح ومقهور يلزم من يأتيه أن يتأهّب عقله وتستنفر مداركه. وفي هذا، ما يرهق، فيخرج من القراءة وهو صبيب عرقًا. لكنّه الإرهاق اللذيذ، المستطاب.

gnassif rou2aثانيها أنّي، خلافًا للمألوف، شرعت بكتابة هذا النصّ ثمّ ملت على الكتاب أقطف أطايبه. فأنا مدمن على المطران جورج كاتبًا وواعظًا منذ صباي ومطالع رجولته. لذلك ما كان همّي بداءة أن أقرأ لأتعرّف إلى ما أعرف. ثمّ إنّ الكتاب هو المطران عينه، والمطران جورج مبسوط لأحبّائه من سفر تكوينه حتّى سفر رؤياه. لكن، ما إن استبان لي أنّ جلّ الكتاب عظات شفويّة، عدت إلى الكتاب أملأ به جوفي.

ثالثها أنّي كنت شديد الغلظة على الكهنة والأساقفة، لا أطيق زلاّتهم. لكنّي بعدما طويت الكتاب، غدوت أكثر رفقًا بالخطأة وأكثر تقبيحًا للخطايا.

بعد هذا وذاك فلأدخل مملكته، مملكة عقله وقلبه وأحاسيسه لأقول: على امتداد الكتاب في فصوله المتعدّدة، ثمّة أفكار حاكمة تتكرّر كرؤًى، من دون أن تستنفدها عشرات المقالات العظات. فالكاتب ولود ومتعدّد تجتمع لديه الإلهيّات والتاريخ وعلم النفس، وعلم الجمال وعلم البلاغة والشعر والأحاديث النبويّة، وخبرات معتّقة في الحياة وأحوال الناس.

في شأن الشموسيّة تتردّد رجع ثلاث رزم من الأفكار:

–  الشمّاس هو من ارتضى أن يكون ذبيحًا، خادمًا للكلمة وللفقراء تنهش الذئاب لحمه وهو ممدّد على العود لا يفتح فاه. هو من ينحني ليغسل الأرجل، كما يسوع في العلّيّة قبل أن يذهب إلى الصلب، أرجل المطروحين في الأنّات، وقد شاءهم ربّه أسيادًا في الملكوت. هو المفروز للَّه وحده لا شريك له. لكنّه، وهو الوديع، الذائق الموت كلّ صباح، المطيع من يعلوه كاهنًا أو أسقفًا، يرفع رأسه حتّى »ينطح الملكوت«. يختزن عنف الإنجيل. يصدع كنبيّ بكلمة يسوع في كلّ وقت وأوان.

–  إذا كان خادم الكلمة شمّاسًا أو كاهنًا، مأمورًا أن يلزم بساطة العيش، فلا جري خلف الرغد والسعة ولا مداهنة للأغنياء، طلبًا للتكسّب، فإنّ الرعيّة مأمورة بالقدر ذاته أن توفّر له الكفاية فلا يعضّه العوز، ولا تثقل عليه المتطلّبات العائليّة. فالكاهن أو الشمّاس زوج وذو أبناء وذو احتياجات ثقافيّة إذا أراد نفسه فهيمًا. وكثيرًا ما تكون الرعيّة قهّارة، تستطيب هي متع الحياة فيما ترمي خادمها في الضيق. لذا وجبت هذه المعادلة المباركة: “عفّة من جهة الراعي وكرم من جهة الرعيّة، تلك هي السلامة”.

–  الشموسيّة ليست رتبة انتظاريّة، عتبة أولى حتّى يُرسم الشمّاس كاهنًا، ولو هي التمثّل بسيرة القدّيس استفانوس أوّل الشهداء وأوّل الشمامسة الذي »رأى مجد اللَّه ويسوع قائمًا عن يمين اللَّه«. إذًا هي موهبة تستلزم زادًا لاهوتيًّا وفمًا ناطقًا بالإلهيّات، لا مساعدًا في إقامة العبادات المقدّسة فقط.

في الكهنوت

هذا في الشموسيّة، فما قولة المطران جاورجيوس في الكهنوت؟

على وفرة ما كتب في الكهنوت، سأتوقّف أمام خمس أفكار تشكّل، عندي، لبّ الموقف:

أوّلاً: إذا كانت الشموسيّة، كما تعني في الأصل اليونانيّ في الكتاب المقدّس، خدمة المذبح الإلهيّ وخدمة الموائد والفقراء والأرامل وكلّ ذي احتياج، »فإنّ من فم الكاهن تطلب الشريعة« تعريفًا، كما جاء في سفر ملاخي.

ثانيًا: شرط الكهنوت، كما جاء في تراثنا الأرثوذكسيّ، أن يكون الكاهن عارفًا المزامير والكتب المقدّسة لا معرفة بسيطة، بل معرفة تفسيريّة (صفحة ٢٧٧).

هذا يوجب على الكاهن أن يغوص على الكتب قراءة متأنّية لا تقلّ عن ساعتين في اليوم الواحد (صفحة ٣٧)، فيستقي المعرفة من الإنجيل أساسًا وكتب التراث، ومنشورات النور وأن يكـون ذا معرفة بالفلسفة لأنّها هندسة العقل وبالتاريخ، التاريخ السياسيّ للبنان أوّلاً، وبشيء من الأدب والشعر، حتّى يبلّغ الكلمة الإلهيّة تبليغًا رصينًا.

ثالثًا: الكاهن سيّد رعيّته. سيّد، لكنّه ليس مسيطرًا ومستبدًّا (صفحة ٢٨٨)، سيّد، فلا يحني الرقبة لأثرياء الرعيّة، ولا يسلك حيالهم سلوك التابع أو الموظّف أو الوضيع. الكاهن لا يحني الرقبة والركبة إلاّ أمام اللَّه. أمّا حيال المؤمنين جميعًا، فهو نبيّ يزلزل الأرض بكلمة اللَّه التي تقطع وتحيي وتقيم من موت.

رابعًا: الكاهن لا يكون كاهنًا بداءة، بل يصير كاهنًا. له مدى العمر، ليصبح كاهنًا. ويصير هذا الكاهن متى استطاع واحد من الرعيّة أن يقول لأخيه: تعال وانظر، هذا كاهن (صفحة ٢٩٤).

خامسًا: الأرثوذكس يتسلّون بالكهنة، ينهشون ويتقوّلون، ويحطّمون. هم غلاظ وقهّارون، لكنّ الرعيّة مصبوغة بالدم الكريم، عظيمة بالقيامة (صفحة ٢٩٤).

أنحنِ على الأرجل الوسخة، وأمضِ مع الرعيّة في مغامرة القداسة. بذلك نرقى إلى ذروة الكتاب في كلامه على الأسقفيّة.

الأسقفيّة

gnassif2في التعريف، الرسوليّ الرائيّ هو من يؤتى به أسقفًا، ليرعى شأن الكلام الإلهيّ (صفحة ٥٤).

لكنّ أطيب ما قرأت من تعريف للأسقف يبقى هذا “الأسقف هو ذلك الإنسان الذي يغذّي الحنين إلى الآخرة” (صفحة ٥٥).

هذه، لعمري، شطحة صوفيّة تعلو على كلّ التعريفات السكولاستيكيّة.

“لكنّ المطارنة من لحم ودم أيضًا، ولهم شهواتهم” يقول المطران. تلك تذكرة تنفع المؤمنين، فسبيلك أن تغضّ النظر عن شهواتهم، فالعورة تُستَر (صفحة ٢٨١). وإذا كان “مجمع الأحبار ليس حرًّا من التجارب”، إلاّ أنّك أنت لست الديّان، بل سائل المغفرة لهم ولك.

حتّى اللحظة، ما زلت في خطى سيّدي، لكنّي على المغايرة في ما سيتلو. فإذا كان صحيحًا، على الصعيد اللاهوتيّ، “أنّ الأسقفيّة مجد باطل لمن اشتهاها”، إلاّ أنّ النظام الطائفيّ في لبنان يمنح الأسقف سلطةً وعزًّا وفخارًا يجعلها مشتهاه حتّى العظم.

فمنذ نظام المتصرفيّة، عندما أوكل إلى الأسقف شؤون الدنيا والآخرة، وبات رئيس ملّته والناطق بلسانها يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، ما بقيت الأسقفيّة مجدًّا باطلاً ولا صليبًا على الأكتاف، بل سيادة دنيويّة وأريكة من ريش النعام، إلاّ لدى الأساقفة القدّيسين أتبرّك منهم بذكرى المطران بولس (بندلي).

نحن، أقصد ندماء جورج خضر بالفكر، أخوان الصفاء وخلاّن الوفاء، ما بقيت تقيتنا المقالات ولا تروي منّا غلّة عطشان. فمنذ ستّين من السنوات ونحن نذوق خمر المقالة حتّى طفح الدن، فتكاثرت الكتب مقالات مجموعة. لكنّ المطران جورج ما التفت إلى إنشاء الكتب، وهي بين فنون الكتابة أكثرها إشباعًا للعقل. في البدء، حكى لنا “مسرى الطفولة” في كتاب ولا أبهى فكرًا وسبكًا، ثمّ هجر إلى المقالة فصنع عجبًا عجابًا. أما حانت الأوبة إلى كتاب يقصّ مسراه في الكهنوت كاهنًا وأسقفًا؟ أعرف أنّ المتناثر في هذا الباب في بطون المقالات كثير، وأعرف أنّ جسده مدمّى وأنّ تاريخه تاريخ طعنات وخيبات وتجارب. “هات جراحك، حتّى نسكب عليها قارورة الطيب عالمين أنّ ربّك هو المطيّب الوحيد”.

لم يسبق لأسقف أنطاكيّ أن اعترف أمام الجماعة المسيحيّة المصلّيّة. فليفعلها إمامي، فليس سواه من هو قادر على أن يتجرّأ على نفسه.

والسلام عليه يوم جلس إلى طاولة يقدح عقله. السلام عليه يوم انتصب على الباب الملوكيّ يقدح شبيبة أنطاكيّة وشيبها حتّى يتلألأوا.

وفي الحالين إنّه الكادح في حقل  الربّ.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share