كيف نفهم قصة آدم وحواء – الأب ميخائيل الدبس

mjoa Monday October 3, 2016 361

كيف نفهم قصة آدم وحواء

(مجلّة النّور، العدد الخامس، 2016)

 

الأب ميخائيل الدبس

مقدّمة 

كوستي بندلي “ليس بلاهوتيّ محترف”. هذا التعريف التنزيهيّ الذي أطلقه كاتب “كيف نفهم قصّة آدم وحوّاء؟” على نفسه يعكس واقعيّة هذا الكاتب وإدراكه محدوديّة نتاجه الفكريّ لكونه إنسانًا مخلوقًا. فالدقّة والإتقان عنده محدودان في مجال البحث اللاهوتيّ لكونه لم يدرس، أكاديميًّا، علم اللاهوت. أضف إلى ذلك أنّ الإتقان والدقّة عنده، مقاربة مع دقّة الخالق وإتقانه، محدودان أيضًا. لكنّ الكاتب أتْبَع تعريفَه التنزيهيّ بآخر تقريريّ، فكانت له الدالة أن يبحث في ما له علاقة بملكوت اللَّه لكونه “يتتلمذ لملكوت اللَّه”. وله في هذه الصفة الإقراريّة، كتلميذ، أن يعتبر ما يدوّنه في هذا الكتاب تلمذةً في مدرسة ملكوت اللَّه واختبارًا لحياة هذا الملكوت، عسى فكره ونتاجه التدوينيّ يكونان تعبيرًا عن هذه الحياة في مكانٍ وزمانٍ رماه الله فيهما ليشهد لملكوته.
هذا ما جهد الكاتب لإتمامه ونقله لمعاصريه عند قراءته الكتاب المقدّس (الإصحاحات الأربعة الأولى من سفر التكوين) مستخدمًا عشرته مع اللَّه والكتاب وما أُعطِي له أن يغرف من معرفة علوم زمانه.
من أراد أن يستفيد من هذا الكتاب، عليه أن يمعن في قراءة القسم الأوّل منه، “مقدّمات”، حتّى يتمكّن من الاستفادة من رحيق القسم الثاني منه، الذي يشكّل القسم الأكبـر من الكتـاب وهـو بعـوان “الحقـائق الإيمـانيّة التي تكشفـها قـصّة آدم وحـوّاء”. إنّ فـهم القـسم الأوّل مـنه يشكّل المفتاح لفهم قصد الكاتب من مؤلَّفه. لذا أردت أن يكون الجزء الأكبر من تعليقي على هذا الكتاب محصورًا به.

القالب الحضاريّ الأدبيّ

adam eveأنا أتفهّم تجنّب الكاتب استخدام كلمة “أسطورة” في عنوان كتابه وتفضيله كلمة “قصّة”، ويعود السبب إلى خشية الكاتب من أن تستفزّ هذه اللفظة مشاعر المؤمنين، وتقواهم ذلك بأنّ بعض المؤمنين لا يزال غارقًا في عقلانيّة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هذه العقلانيّة الضيّقة التي ظلّت تعتبر الأسطورة مجرّد خرافة يُستخفّ بها، ولم يطّلع على المفهوم الجديد الذي أعطته العلوم الإنسانيّة لكلمة “أسطورة” (الكتاب ص. 7- 8- 9). وحتّى إنّ البعض رأى في قوله “قصّة” تشويهًا للكتاب ولحقائقه، إذ حوّلها إلى مجرّد قصص في حين أنّ ما ورد في الكتاب هو أحداث تاريخيّة حقيقيّة بكلّ تفاصيلها، ومن ضمنها تفاصيل خلق الإنسان الأوّل. ولا أدري بما نسمّي ما ورد في تكوين 6: ١- ٤ عن أبناء اللَّه وبنات الناس وكيف دخل بنو اللَّه على بنات الناس فولدن الجبابرة؟  ما هو متعارف عليه بين باحثي الكتاب المقدّس والمؤرّخين عمومًا أنّ ما ورد في الإصحاحات التسعة الأولى سُمّي المرحلة ما قبل التاريخيّة بسبب شحّ المصادر التاريخيّة العائدة إلى تلك الحقبة. وأنّ المرحلة التاريخيّة تبدأ من الإصحاح العاشر حيث نقرأ جداول بتفرّعات الأمم من نوح وأولاده. وحتّى هذه الإصحاحات وما ورد فيها من أحداث لا تخلو من صعوبات جمّة في رسم مسارها التاريخيّ ومردّ ذلك إلى أمرين:
١- ما كانت الكتابة التأريخيّة قائمة على تدوينٍ موضوعيّ للأحداث بالشكل المتعارف عليه اليوم بين المؤرّخين، بل إنّ المبالغة والرمزيّة والمزج بين الأحداث والشخـصيّات التـاريـخيّة من جهة والأساطير من جهة أخرى شكّل السمة الرئيسة للتأريخ ولكلّ الآثار الأدبيّة الأخرى. أوّل من سعى لفصل التأريخ عن الأسطورة كان هيرودوتوس في القرن الخامس ق.م. وحتّى بعد هذا الأخيـر لـم ينسـلخ التأريخ عن الوجه الأسطوريّ والملحميّ إلاّ بعد زمن بعيد. هذا ما لحظه العالِم ابن خلدون.
٢- القالب الأدبيّ الذي كان يلجأ إليه الإنسان للتعبير عن خبرته الإنسانيّة تمثّل بالأسطورة ثمّ بالملحمة التي كانت تحوي نواة تاريخيّة حُبكت حولها أساطير وبطولات لشخصيّات غالبًا ما كانت حقيقيّة. هذا ما يقوله الكاتب في القسم الأوّل من الكتاب (ص. 7- 10).
سؤال يطرحه المتمسّكون بتاريخيّة الفصول الأولى لسفر التكوين: كيف لكاتبٍ قدّيس يكتب بوحيٍ من اللَّه أن يذكر لنا أمورًا لم تحدث فعلاً في التارخ أي أن يكذب؟! سؤال كهذا يكشف عن عدم فهمٍ لمسألة الوحي وعن خلطٍ بين كتابته وكتابة التأريخ. نقول باختصار: كتابة الوحي ليست كتابة تاريخ وإن حوت عناصر تاريخيّة، وكاتب الوحي ليس مؤرّخًا، ولو شاء أن يكونه فلا يمكنه التفلّت من نهج كتابة التاريخ في عصره، وهو نهج قائم على الخلط بين الحدث والأسطورة والملحمة والرمزيّة، وله أن يقع في هذا الخلط بوعيٍ أو بغير وعي كونه ابن عصره. أمّا إذا سلّمنا أنّه لا يبغي كتابة التاريخ بل يدوّن وحيًا إلهيًّا، فالوحي أيضًا لا يخرجه من عصره وعليه أن يستخدم قوالب عصره الأدبيّة واللغويّة والتاريخيّة ليبلّغ حقائق الوحي لإنسان عصره.

نهج قراءة الكتاب المقدّس

هناك إجماع في اللاهوت المسيحيّ على أنّ الكتاب المقدّس هو كتاب وحيٍ إلهيّ وليس كتاب إنزال إلهيّ. غير أنّ قراءة البعض لهذا الكتاب وما يطالبه به من حقائق ومعلومات يكشف خضوع هذا البعض للمفهوم التنزيليّ. فرقان أساسان بين الوحي والإنزال يجب وضعهما نصب أعيننا حتّى تكون قراءتنا الكتاب تلقّيًا للوحي الإلهيّ:
١- يفترض الوحي حضورًا إنسانيًّا في كتابته، تآزرًا بين اللَّه والكيان الإنسانيّ بمجمله، إنّه وجه من وجوه سرّ التجسّد الإلهيّ الأزليّ. الوحي لا يلغي شخص كاتبه. أمّا الإنزال فيُلزم غياب الكيان الإنسانيّ في كتابته. في الأوّل يبقى شخص الكاتب بأسلوبه اللغويّ وثقافته وطبعه وعلمه وبيئته وعصره ظاهرًا. أمّا في الثاني، فهذه العناصر كلّها تغيب.
٢- لاهوت الوحي قائم على كشفٍ إلهيّ يظهره اللَّه للإنسان لكون الأخير غير قادرٍ على بلوغ هذا الكشف منفردًا. هذه مسلّمة مشتركة عند كلٍّ من أتباع الوحي وأتباع الإنزال. لكنّ التباين بينهما قائم في مضامين هذا الكشف. فمضمون الوحي حقائق غير مخلوقة تتخطّى قدرة العقل البشريّ المخلوق لأنّها نابعة من اللَّه غير المخلوق، لذا من الضرورة لهذا الإنسان المخلوق أن يكشفها اللَّه له. أمّا في الإنزال، فيمكن أن تتضمّن الحقائق المكشوفة حقائق مخلوقة أيضًا كالحقائق العلميّة مثلاً.

من يقرأ الكتاب المقدّس ليفتّش فيه عن حقائق تاريخيّة أو علميّة مرتبطة بنشوء الكون والإنسان يشبه إنسانًا في يومنا هذا يلجأ إلى نظام بطليموس الفلكيّ ليتعرّف إلى المجموعة الشمسيّة وحركتها في الفضاء. له في هذا الأمر أن يلجأ إلى كتب التاريخ والفلك والبيولوجيا والأنثروبولوجيا وأن يبحث ويحكِّم عقله، لا تقواه، وسيجد فيها وفيه بغيته. أمّا إذا أصرّ على الكتاب المقدّس كمصدر لهذه المعلومات، فهو يقرأه ككتابٍ مُنزل، لأنّه يرى في الكاتب مجرّد يدٍ يحرّكها اللَّه، ويخلط بين المخلوق وغير المخلوق.

أمّا من يقرأ الكتاب ليفتّش فيه عن اللَّه كمبدأ الوجود وخالقِه من العدم وعن حقيقة محبّة اللَّه لهذا الوجود كدافعٍ وحيد لخَلْقه ورعايته وقيادته إلى الشراكة معه، فلن تُزعزع إيمانَه أسطورةٌ استخدمها الكاتب كقالب أدبيّ يوصل، عبره، حقائق الكشف الإلهيّ غير المخلوقة، والتي لا يمكن لعقلٍ بشريّ أن يدركها، إلى البشر المخلوقين، إلى مجمل كيانهم. ولن يضطرب إيمانه أيضًا إذا اكتشف أنّ شخصًا ما أو تفصيلاً لحدثٍ ما لم تُثبَت تاريخيّته. ذلك بأنّ مقتضيات الوحي تتطلّب خضوع الكاتب لقوالب الكتابة وقواعدها في عصره.
لا تشكّل متطلّبات مقتضيات الوحي الإلهيّ إهانة لقدسيّة الكاتب وأخلاقيّته. فأخلاقيّات الكتابة في تلك الحقبة تختلف عنها في يومنا هذا. فإذا نقل لنا اليوم أحدهم أسطورة على أنّها حدث تاريخيّ نعتناه بالكاذب لأنّ كتابة التاريخ وأيّ كتابة أخرى في يومنا هذا لا تقبل بقالب الأسطورة. أمّا القارىء في حقبة الإصحاحات الأربعة الأولى لسفر التكوين، فيفهم هذا القالب الأدبيّ ويتقبّله ويتفاعـل معـه أكثـر من أيّ قالب أدبيّ تجريديّ. هذا لا يعني البتّة أنّنا نسلّم بعدم تاريخيّة مجمل الأحداث الخلاصيّة وشخصيّاتها المقدّسة. حاشا. الخلاص والحقيقة عندنا أشخاصٌ أوّلاً قبل أن يكونا كلامًا، هم نماذج حيّة واقعيّة يحتـذى بهم. ولكـن إذا بيّن لنـا النقـد العلميّ، بأساليبـه الموضـوعيّة، أنّ عنـصرًا مـا في الكتاب المقدّس هو أسـطــوريّ، فـلا يعني أنّ كاتبه كاذب وأنّ الكتاب قد هدِم والإيمان قد سقط. وخير مثال على ما نقول موقف الكنيسـة مـن كوبربيـكــوس وغـاليلايو وغيرهم من العلماء.
يتكرّر هذا الموقف اليوم عند من يصرّون على رفض أيّ نظريّة علميّة تحاول تفسير نشوء الكون والإنسان وتــكون مغــايرة للــرواية الكتابيّة، أو بالأحرى لقالب الروايــة الكتابيّة الأدبيّ. ويــدعو كــوستـي بندلي إلى الابتعاد عن اصطــنــاع تضادٍّ بيـن الرواية الكتابيّة من جهة والعلــم مــن جهة أخرى. الحلّ عنده هو بالتمييز بين القالب الأدبيّ والمضمــون الذي يوحــي به هـذا القالب، بين الوعاء الذي يـنقل الحقيـقـة والـحقيـقـة الكــامنة فيه (ص 19- 20). هـذا ما سعـى الكــاتب إلــى إبرازه في القسم الثــاني مــن كتابه، فـحقـيقـة اللَّه والإنـســان مغـايرتــان تمــامًا لـمــا هما عليه في الأساطير الشرقيّة وفي الديانات الشرقيّة السابقة واللاحقة له وفي المذاهب الفلسفيّة اليونانيّة التي كانت سائدة في حقبة تدوين قصّة آدم وحوّاء.

fr-mikhael-debs

التمايز في مضمون الوحي الإلهيّ

بدءًا، يوضح الكاتب التمايز الكامن في الكتاب المقدّس في مسألة علاقة الإنسان بالطبيعة وباللَّه الذي يمدّه بالحياة. هو جزء من الطبيعة وجُبل منها، لكنّه في الوقت عينه أسمى منها لأنّ اللَّه أقام علاقة فريدة بينه وبين الإنسان وخصّه بها: الصورة الإلهيّة منحت الأخير سلطة على الطبيعة إذ أقامه اللَّه، عبرها، وكيلاً له عليها. نرى تسامي الإنسان على الطبيعة في: ١- ممارسة السيادة عليها وعلى حيواناتها. لما عادت الطبيعة قوى إلهيّة تسود الإنسان ويخاف منها، بل هي وُجدت لخدمته وله أن يرعاها ويحفظها ويسودها، كمندوب للَّه على الأرض، عبر العقل الذي وهبه لله إيّاه (التقنيّة). ٢- ممارسة العبادة التي خصّص لها اليوم السابع الذي فيه استراح اللَّه من أعمال الخلق، ودعا الإنسان ليماثله في تكريس هذا اليوم لعبادة ذاك الذي يستمدّ منه السيادة على الخليقة (ص 24- 32). الإنسان في الأساطير الشرقيّة مستعبد للآلهة، هي خلقته لخدمته ولأنّها بحاجة إليه، وإذا أزعجها قضت عليه. إنّه ألعوبة في يد الآلهة ومبرّرُ وجوده هو راحتها. أمّا في سفر التكوين، فالإنسان مهمّ بحدّ ذاته، ملكٌ على الكون. والويلات التي تصيبه ليست صنيعة اللَّه، بل الإنسان هو الذي يجلبها على نفسه نتيجة خياراته الحرّة المسؤولة. هنا يبرز وجه المسؤوليّة الأخلاقيّة الغائبة عن الأساطير الشرقيّة (ص 36- 42). الإنسان في سفر التكوين هو “ابن اللَّه المحبوب”.

نظريّة التطوّر

لابدّ من أن نقف هنا، ولو قليلاً، حول ما يقوله الكاتب عن نظريّة التطوّر في نشوء الإنسان (للكاتب كتيّب حول هذا الموضوع، الله والتطوّر). إذ يستشهد الكاتب بالقدّيس غريغوريوس النيصصيّ ويقول إنّ القدّيس “فسّر ما يقوله سفر التكوين عن خلق الإنسان من منظارٍ تطوّريّ. وفي مجرى النموّ عَبَر الإنسان بالطور النباتيّ، وبالطور الحيوانيّ. وهكذا تطوّر كما يتطوّر كلّ جنين قبل أن يبلغ شكله الكامل” (ص.44). بالحقيقة  يتحدّث النيصصيّ في كتابه “حول الخلق في ستّة أيّام” (PG 44,77…) عن شيء من التطوّر في نشوء العالم، فيقول إنّ العالم، ككلّ موحَّد، ينشأ بمجمله على شكل بذرة، في لحظة ما، بارزًا من العدم إلى الوجود بواسطة فعل اللَّه الخلاّق. ويتكلّم على “اندفاعةٍ إبداعيّة أولى” يلقي خلالها نوعًا من “القوّة النُطْفِيّة” لولادة لاحقة للكون. لذا يقول إنّ الكائنات حينها “كانت ولم تكن”. بعد ذلك يكتمل هذا الفعل الخلاّق بحسب الترتيب والتسلسل السائرَين بموجب “القوّة النطفيّة” الموجودة قبلاً والتي بذرها اللَّه في الكون لهذه الغاية. كأنّنا هنا أمام نظريّة تطوّر نشوء الكون، أضف إليها أنّ اللَّه هو الذي يسيّر هذا التطوّر، وهذا ما أكّد عليه كوستي بندلي في كُتيّبه “اللَّه والتطوّر”.

فرادة الإنسان في الوحي الإلهيّ

 يُبرز الكاتب الفرادة في نظرة الوحي الإلهيّ إلى الإنسان “ككائن شراكيّ” منطلقًا من خلق المرأة من ضلع الرجل وما تعكسه هذه الرواية من:
1- آثار الفكر الذكوريّ الذي لم يتمكّن كاتب الوحي من التفلّت منه، وهذا أمر طبيعيّ.
2- جُدّة الوحي الإلهيّ المتمثّلة بمساواة الرجل والمرأة، من جهة طبيعتهما الإنسانيّة، وبعمق الحبّ الزوجيّ وديمومته “ويصيران كلاهما جسدًا واحدًا”، “وهذا ما يخالف التصوّرات الشائعة عن علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع ذاته الذي ظهر فيه” الوحي الإلهيّ وفي مجتمعات أخرى (ص. 47- 56).

الحالة الفردوسيّة

في ما خصّ مصير الإنسان، يقول الكاتب إنّ سفر التكوين يتحدّث عن “حالة فردوسيّة”، وردت أيضًا في أساطير الشرق، يكون فيها الإنسان بمأمن من الشرّ والشقاء والموت وفي سلام وألفة مع كلّ الكائنات وفي شركة مع الله. هنا يجتهد الكاتب في قوله إنّ هذه الحالة لم تتحقّق حتّى الآن في تاريخ البشريّة، بل هي “غاية الإنسان مسجّلة في أعماق كيانه”، كما أنّها ليست “مجرّد حلم يخدّر به بؤسه”. هي حالة ليست وراءنا، هي أمامنا، حقيقة لم تحصل في الماضي بل هي حنين وتوق غرسهما اللَّه في أعماق الإنسان عند خلقه، ليكونا محرِّكَين له نحو المصير الذي أعدّه له (ص 57- 63).

رموز الخطيئة والسقوط

في معالجة مسألة الخطيئة والسقوط، يبدأ الكاتب بعرض القالب الحضاريّ الذي صيغت فيه قصّة الخليقة والسقوط، مركِّزًا على دور كلّ من الحيّة والشجرة والمرأة. فيعرض الأفكار التي كانت سائدة في الأساطير الشرقيّة وكيف تصدّى الكتاب المقدّس لها: ١- الحيّة كرمز للأرض الكونيّة ومصدر الخصوبة ما أدّى إلى تأليهها وجعلها مصدرًا للخصوبة. في المقابل اعتبرها سفر التكوين أصل الشرور (ص 65- 67). ٢- الشجرة التي تحوي قوى إلهيّة يقتنيها الإنسان بممارسات سحريّة. في المقابل أصبحت في سفر التكوين مصدرًا لمعرفة الخير والشرّ، والمعرفة هنا تترادف مع اغتصاب السلطان المطلق أي السلطان الإلهيّ (ص. 67- 68). ٣- المرأة التي انتقصت كلّ الحضارات دورها عبر سلطةٍ أبويّة منطلقة من “شهوة التسلّط لدى الرجل” ومن “خوف دفين من المرأة وغَيرة من قدرتها الخلاّقة (الإنجاب)” ومن “غوايتها” الجنسيّة له غوايةً جعلها منفذًا يتملّص عبره من مسؤوليّة رغبته الجنسيّة، إذا ما انحرفت، بإسقاطها على المرأة” (ص 69- 72).

الحقائق الإيمانيّة للوحي الإلهيّ

بعد أن عرض الكاتب القالب الحضاريّ لقصّة الخلق والسقوط، يعرض الحقائق الإيمانيّة التي تعبّر عنها هذه القصّة فيتطرّق إلى: معنى السقوط والخطيئة مرتكب الخطيئة – دور المجرِّب ونتائج الخطيئة. نكتفي هنا بعرض مسألتين من هذه الحقائق:
معنى السقوط: برأي الكاتب، لم يكن الإنسان، في مرحلة سابقة، في حالة من الكمال والسعادة والخلود وسقط منها في ما بعد. السقوط ، باعتقاده، يعني أنّ الإنسان يحيا دون ما رسمه اللَّه له أي دون أصالته، دون الصورة الإلهيّة. إنّ محاولة كاتب سفر التكوين في تصويره، زمنيًّا، حالة أصل الإنسان كحالة كمال وسعادة وخلود أوّلاً، ثمّ السقوط والشقاء والمعاناة ثانيًا، إنّما تشير إلى أولويّة كيانيّة وليس إلى أولويّة زمنيّة. فالكلام عن أصل الإنسان لا يعني “الأصل التاريخيّ” بل “أصالة” الإنسان “وحقيقته العميقة” (ص. 7٣- ٧٥).
اضطراب العلاقة بالآخر كإحدى نتائج الخطيئة: السقوط، بالنسبة إلى الكاتب، هو انغلاق على الذات ومحاولة للاكتفاء بها. لذا فإنّ علاقته تضطرب مع الآخر الإلهيّ، مصدر وجوده، وفي الوقت عينه مع الآخر الإنسانيّ الشريك، فيصبح الآخر صورة لهذه الذات وامتدادًا لها وأداة لقضاء حاجاتها، فيتنكّر لفرادته وشراكته ويحوّله إلى عدوّ. يبيّن الكاتب الوجه العدوانيّ لاضطراب العلاقة مع الآخر عبر إلقاء آدم اللوم، في أكله من الشجرة، على زوجته التي ما بقيت بالنسبة إليه “لحم من لحمي وعظم من عظامي” بل “تلك التي جعلتَها معي” أي “تلك الغريبة عنّي… تلك التي بلَوْتَني بها”. وتسرّبت هذه العدوانيّة إلى أوثق الربط البشريّة: العلاقة الزوجيّة والعلاقة الأخويّة (قايين وهابيل) (ص 105 – 107).
أمّا الوجه الثاني لاضطراب العلاقة مع الآخر، فهو الوجه الجنسيّ (الخجل من العري). للكاتب رأي مميّز حول العلاقة الجنسيّة، أعلنه في عدد من كتبه (الجنس ومعناه الإنسانيّ، الجنس في أنواره وظلاله). ويفترض تفهّمُ رأيِه هذا قراءةَ هذين الكتابين. نكتفي هنا بالقول إنّ كوستي بندلي لا يعتبر الجنس أمرًا طارئًا على الإنسان نتيجة الخطيئة بل طاقةً أصيلة عنده، ويعتبر أنّ قصد اللَّه من الطاقة الجنسيّة هو “بالأصل أن يجعل الإنسان مشاركًا له في حبّه وفي قدرته الخلاّقة” (التناسل) وأنّ الخطيئة شوّهت أصالة الجنس. تفترض هذه الأخيرةُ الجسدَ “معبّر للقاء حميم بين الزوجين، والرغبةِ الجنسيّة هي “حافز لتحقيق هذا اللقاء” الذي يجب أن يعبّر عن تعاطف وجدانيّ بينهما. لكنّ الخطيئة، الانغلاق على الذات، جعلت الشريك الآخر أداة لإشباع “نزوة ذاتيّة”. هكذا ينفصل الجسد عن حركة اللقاء الصميميّ مع الآخر، فيرى المرء جسده مكانًا لحركة نزواتٍ فقط. كما يحسّ أنّ الجنس الآخر أيضًا يهتمّ بجسده بحدّ ذاته وبما “يعده به من لذّة” فيشعر تاليّا أنّ جسده أصبح كيانًا غريبًا يهدّد شخصه الإنسانيّ ووجوده عمومًا فيشعر بالخجل (ص. 107- 108).

خاتمة

 ما عُرض لا يُغني عن قراءة هذا الكتاب. قراءته لا تُلزم القارىء إقرارًا بآراء كاتبه، بل تفتح أفقًا جديدًا لصياغة جديـدة لإيمـاننا الأرثـوذكسيّ فـي عالم اليوم، مع البقاء عـلى أصـالة الإيمـان الـذي تسـلّمناه من الربّ ورسـله والآباء القدّيسين. لم ير الكاتب في المسيحيّة إلاّ محبّةً للإنسان وصَونًا لكرامته وقدسيّته. فليُقرأ كوستي بندلي بمحبّة.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share