مجمع كريت: على رجاء أن نتعلّم

mjoa Saturday October 1, 2016 289

مجمع كريت: على رجاء أن نتعلّم

(مجلّة النّور، العدد الخامس، 2016)

 

أسعد الياس قطّان

ربّما تكون الأسئلة العالقة بعد التئام مجمع كريت تفوق في عددها الأسئلة التي كانت مطروحةً قبل انعقاده. كيف سيعمل الأرثوذكس، مثلاً، على معالجة الشرخ بينهم؟ وهل إنّ الرؤية التي أفصح عنها آباء المجمع، والمتمثّلة في انعقاد مجمع أرثوذكسيّ “كبير” كلّ سبع أو عشر من السنين، ستتحوّل إلى حقيقة، أم تبقى في إطار التمنّيات الجميلة فقط؟ ولكنّ الأهمّ من هذه الأسئلة جميعها هي الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة كريت. والحقّ أنّ الأرثوذكس، إذا لم يسارعوا إلى عمليّة الاستخلاص هذه، فإنّ الانقسام الذي هم عليه اليوم لن يتقهقر، بل الأرجح أنّه سيترسّخ، ويتحوّل إلى شرذمة.

Assaadأوّل هذه الدروس أنّ مجمع كريت أظهر أنّ المجمعيّة الأرثوذكسيّة، التي لطالما تغنّينا بها، في حاجة إلى عمليّة جراحيّة، إذ تعوزها بنى وحدويّة فشلنا في وضع مداميكها. مشكلة الأرثوذكس أنّ لديهم كلامًا كثيرًا في تراثهم على المجمعيّة وما تعكسه من تعدّد. ولكنّ هذا الكلام لا تقابله بنى كنسيّة واضحة تسوس الوحدة وترسّخها. هذه الملاحظة ليست جديدةً. فلقد تنبّه إلى هذه المعضلة عدد من المفكّرين الأرثوذكس، ولفتوا إليها فيما كان التحضير للمجمع الأرثوذكسيّ الكبير ما زال في تمتماته الأولى. ولكنّ تجربة انعقاد مجمع كريت، وما سبقها من مقاطعة بعض الكنائس الأرثوذكسيّة، وما تخلّلها من قرار الكنائس الأخرى أن تذهب إلى الجزيرة اليونانيّة »من دون الإخوة«، كلّ هذا يدلّ على أنّ المجمعيّة الأرثوذكسيّة، في صورتها الحاضرة، غير قابلة للتطبيق، إذ تنقصها البنى الكنسيّة الضروريّة التي تصون الوحدة حين تظهر المشاكل. فما هو معنى المجمعيّة إذا لم تتمتّع بآليّات بنيويّة تتيح للأرثوذكس أن يتخطّوا خلافاتهم؟ وما أكثرها! كان من الضروريّ، إذًا، أن يسبق مجمع كريت حوار أرثوذكسيّ صريح حول هذه الآليّات. ولعلّ هذا الحوار، لو تمّ، لكان جنّب الكنائس الانسياق وراء النقاش الذي يدور منذ عقود حول صلاحيّات بطريرك القسطنطينيّة ومدى قدرتنا على استقائها من القوانين القديمة. إنّ استغراق الأرثوذكس في جدلهم البيزنطيّ حول ما إذا كانت الأوليّة تجوز لكنيسة القسطنطينيّة، أم يجب انتقالها إلى بطريركيّة موسكو، لكونها اليوم الأكبر والأعظم شأنًا من حيث عدد المؤمنين، فوّت على الكنيسة الأرثوذكسيّة فرصة حوار حقيقيّ حول العلاقة بين المجمعيّة والوحدة، علمًا بأنّ هذا النقاش هو لبّ المشكلة لا داخل العالم الأرثوذكسيّ فحسب، بل مع كنيسة الغرب الرومانيّة أيضًا. ومن ثمّ، فإنّ مجمع كريت لم يكن إلاّ مؤشّرًا على وجود هذه المشكلة التي لم نسعَ نحن الأرثوذكس إلى معالجتها في تاريخنا الحديث، أي بعد سقوط القسطنطينيّة العام 1453. فإذا بالتاريخ ينتقم منّا في أوّل محاولة جدّيّة نقوم بها في العصر الحديث للمّ شملنا، والتكلّم بلسان واحد أمام اللَّه والناس.

الدرس الثاني الذي يمكن استمداده من خبرة كريت هو أنّنا سعينا، ويا للأسف، إلى عقد مجمع “معاصر” ولكن بجدول أعمال قديم. وهذه، لعمري، فضيحة الفضائح. والحقّ أنّ مَن يتمعّن في معظم الوثائق الصادرة عن المجمع المنعقد في الجزيرة اليونانيّة، والتي تتناول مواضيع مثل الصوم والزواج والعائلة، لا بدّ له من أن يستنتج أنّها، في العمق، لا تقول شيئًا، أو تمرّ على التحدّيات الحقيقيّة التي يواجهها الأرثوذكس مرور الكرام. أمّا إذا توقّفت عند هذه التحدّيات وحاولت أن تصوغ لها شيئًا من أجوبة، فإنّها غالبًا ما تقوم بذلك مستخدمةً لغةً فوقيّةً لا تنمّ عن أيّ استعداد للانفتاح على خبرات البشر الجديدة أو التعلّم منها. فلهجة نصوص مجمع كريت هي، على وجه العموم، لهجة كنيسة أرثوذكسيّة متراصّة تمتلك الحقيقة، وتريد تعليم العالم وإعادة تبشيره، عوضًا من أن تستمدّ هي من خبرات من يعيشون فيه. وإنّ جلّ ما يقال عن هذه النصوص هو أنّها تحاول معالجة بعض تحدّيات الحداثة بذهنيّة العصور البائدة، وكأنّ هناك، في العقل الأرثوذكسيّ، نموذجًا مجتمعيًّا وحيدًا غير قابل للمساءلة أو للتغيّر، هو ذاك المستمدّ من المجتمعات الريفيّة التي كانت مهيمنةً في أزمنة ما قبل الحداثة. وعلى هذا بعض الأمثلة:

تمعن هذه النصوص، مثلاً، في التشديد على “العائلة” بوصفها الشكل المجتمعيّ الأمثل، ولكن من دون أن “تعرّج” على آلاف النساء الأرثوذكسيّات اللواتي يربّين أولادهنّ منفردات في روسيا والبلقان. فتمتنع عن إخبارنا إذا كان هذا النمط المجتمعيّ “الحديث” يندرج في تحديد العائلة أم أنّه “شاذّ”. كما أنّ نصوص المجمع تتحاشى التعرّض إلى إشكاليّة المساكنة وتربية الأولاد خارج مؤسّسة الزواج إلاّ من باب قذف كلّ هذا في دائرة “الخطيئة”، متجاهلةً أنّ آلاف الشباب الأرثوذكس الملتزمين بكنيستهم في أوروبا وروسيا وأميركا يعيشون اليوم ضمن خلايا مجتمعيّة تقوم خارج دائرة الزواج الكنسيّ. يضاف إلى هذا أنّ بعض نصوص المجمع تعكس مفهومًا ملتبسًا للحرّيّة. فهي، من جهة، تقول كلامًا إيجابيًّا عن الكرامة الإنسانيّة والحرّيّة الدينيّة. ولكنّها، من جهة أخرى، تتناسى أنّ هذه الكرامة تنطوي على الحرّيّة الفكريّة والاجتماعيّة أيضًا. ويبلغ الالتباس ذروته في ما يقال عن حقوق الإنسان، إذ يصاحب الكلامَ هنا ميلٌ واضح إلى إذابة الحقوق الفرديّة والاستعاضة عنها بالحقوق “الجماعيّة”، حتّى إنّنا نعثر على كلام يعتبر أنّ الحقوق الإنسانيّة الفرديّة تهدّد العائلة والأديان والأمّة. وهذا، لعمري، كلام خطير، لكونه يشتمل على بذور تعظيم الكيانات الجماعيّة كالعائلة والمجتمع والأمّة على حساب الإنسان الفرد، ويصبّ في تعزيز آفة القوميّة التي تعاني منها معظم الشعوب الأرثوذكسيّة. واللافت أنّ نمط الالتباس هذا لا ينسحب على ما ذكرناه، بل يطاول نطاقاتٍ أخرى كالعلمنة والعلوم. فالعلمنة تارةً ثمرة من ثمار الخبرة المجتمعيّة للكنيسة، من دون أن يترافق هذا الزعم مع أيّ شرح، وهي طورًا شرّ كبير تنبغي مواجهته. أمّا علوم الأحياء، فغير قادرة على حلّ المشاكل الأخلاقيّة، وهذا صحيح ولا شكّ. ولكنّ نصوص المجمع تتكتّم تمامًا عن المساهمة التي قدّمتها العلوم الإنسانيّة، كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ، في فهم العالم، وكأنّ هذه العلوم ليست بموجودة، أو كأنّها لا تطرح على ضمير الكنيسة أيّ تحدٍّ. هذا، طبعًا، غيض من فيض. فنصوص المجمع تتعثّر أيضًا في الكلام على الشباب ودورهم رغم تشديدها على أنّهم ليسوا “مستقبل” الكنيسة فحسب، بل “حاضرها” أيضًا. وهي إذا تطرّقت إلى التعاون والتآزر بين الكنيسة والدولة، أهملت الدور النقديّ الذي تضطلع به الكنيسة إزاء دولة تتعسّف وتطغى، أو تسعى إلى حلّ المشاكل الأخلاقيّة لا-إنسانيًّا.

ينتج من هذا كلّه أنّ ما ينتظر الكنائس الأرثوذكسيّة بعد مجمع كريت هو أهمّ بأشواط ممّا سبقه. فالأرثوذكس ما زالوا في بدء الطريق حين يتعلّق الموضوع بالأسئلة والتحدّيات الكبرى في عالمنا المعاصر. بهذا المعنى، كان لا بدّ من كريت حتّى نتعلّم. طبعًا على رجاء أن نتعلّم…

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share