ما زال ناس بلادنا يفضّلون أن يكون حكّامهم من القتلة والمستبدّين والطغاة، لا من محبّي السلام والعدالة، ولا من الودعاء والمتواضعين. يمجّدون ويصفقون للقائد الفذّ، فريد عصره ووليّ زمانه، وإنْ أمعن في تعذيبهم وسجنهم وحرمانهم من حرّيّتهم وكرامتهم الإنسانيّة، وإنْ سلب حياتهم وأموالهم وأرزاقهم. يمجّدونه، بل يعبدونه إلهًا مخلّصًا، ويرضون بتقديم ضحايا بشريّة على مذبحه المقدّس. التقدمات البشريّة لم ينتهِ زمانها بعد.
ما نشهده في بلادنا من مجازر ومذابح يزيدنا اقتناعًا بأنّ الناس ما زالت تحبّ الحكّام القتلة على سواهم من أهل الفضائل. يقدّمون لهم التبريرات والذرائع للإمعان في جبروتهم وطغيانهم وغيّهم غير مكترثين بالضحايا التي تتساقط يوميًّا كالذباب. الناس لا ذنب عليها إذا التزمت الصمت خوفًا من قائد مجرم، لكنّها تصبح شريكة في الجرم حين تفتح فاها مدافعة عن أفعاله الشائنة. الصمت لهم أشرف وأكرم من الكلام الباطل.
في سوريا، لا يموت سوى السوريّين وبعض المرتزقة من غير السوريّين. السوريون وحدهم يدفعون ضريبة الدم. أطفالهم ترمى عليهم مختلف أنواع الأسلحة، ومنهم مَن يموت حرقًا أو ذبحًا أو طحنًا أو اختناقًا كما جرى منذ أيّام قليلة. اللافت في الأمر أنّ السوريّين لم يحزنوا كلّهم على هؤلاء الأطفال. الأطفال تفصيل بسيط في هذه المجزرة لا يستحقّ التوقّف عنده. ذهب السوريّون إلى استثمار هذه المقتلة في البازار السياسيّ، في سبيل استجداء تأييدات وهميّة من قوى كبرى آخرى لا يهمّها على وجه هذه البسيطة الدم السوريّ.
لا نلوم القوى الكبرى لاسترخاصها الدم السوريّ، فالسوريّون أنفسهم يسترخصون دماءهم. المصيبة الكبرى ليست في الأفعال الحربيّة على اختلافها، وليست في قتل السوريّين على يد السفّاحين من كلّ حدب وصوب. المصيبة الكبرى، إنْ بقينا أحياء، تكمن في أن نفقد إنسانيّتنا. ما معنى أن نبقى جسديًّا نتنفّس ونأكل ونشرب ونسعى إلى الرزق… لكن فاقدي الإنسانيّة، بلا عطف ولا رحمة ولا محبّة؟ ألاّ نصبح كباقي المخلوقات من غير البشر؟
التضامن بين السوريّين، وعدم شماتتهم المتبادلة بقتلاهم وجرحاهم ونازحيهم وأسراهم، وعدم تفضيلهم بين ضحاياهم، وعدم تمييزهم بعضهم بعضًا وفق انتماءاتهم الدينيّة والمذهبيّة، وعدم استجدائهم العون من القوى العظمى شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، هو وحده الذي ينقذ السوريّين من توحّشهم وعدم تساويهم في الإثم.
غدًا، أحد الشعانين، يدخل المسيح إلى أورشليم-القدس ملكًا. استقبله الناس كما يستقبلون أيّ ملك آخر. لكنّه أراهم أنّه ملك من طراز مختلف. فالملوك عليهم أن يتّصفوا بالقوّة والسيطرة والأبّهة والكبرياء والمال… أمّا المسيح فأراهم أنّه آتٍ راكبًا على جحش عوضًا عن الخيل الأصيلة، أراهم التواضع والوداعة والمحبّة، أراهم أن السلطة خدمة مجّانيّة لا تسلّط أعمى… لكنّ العبرة الأهمّ التي أراها يسوع هي أنّ الملك الحقيقيّ هو مَن يبذل دمه فداءً عن شعبه، لا مَن يموت شعبه من أجل أن يبقى هو حاكمًا مستبدًا في السلطة. فنبذوه واسلموه إلى الصلب ليموت، وفضّلوا لصًّا اسمه باراباس عليه…
نعم، نحن نفضّل الطغاة والقتلة والمستبدّين… هل ستحدث الأعجوبة غدًا، فنختار المسيح ملكًا نخضع له ولتعاليمه، أم نفضّل عليه جبابرة هذا العالم؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”،8 نيسان 2017