الأضحى والصليب

الأب جورج مسّوح Saturday September 2, 2017 253

يتضمّن عيد الأضحى رموزًا عديدة ما زالت شعوبنا تحياها. إبراهيم الخليل حين همّ بذبح ابنه – إسحق لدى اليهود والمسيحيّين، وإسماعيل لدى المسلمين – كفّ الله يده، واستبدل الكبش بابنه الذبيح. الله افتدى الصبي، ضاربًا هذا الحدث الدينيّ مثلاً كي لا يستمرّ البشر بتقديم الذبائح البشريّة، وأن يستعيضوا عنها بالذبائح الحيوانيّة. ثمّ أتى المسيح فألغى الذبائح الحيوانيّة، مقدّمًا ذاته ذبيحة، مرّة واحدة وإلى الأبد، من أجل خلاص البشر.

لكنّ الذبائح البشريّة الدمويّة ما زالت تُمارس هنا وثمّة. لم ينفع تدخّل الله مع إبراهيم، لأنّ البشر ما شاؤوا أن ينتفعوا. يكفي أن نراقب ما يجري حولنا كي ندرك فداحة ما يجري. ذبائح وأضحية بشريّة تقدّم على مذبح السلطان، أو أمير الجماعة، الذي احتلّ لدى الناس مكان الله. وهم اقتنعوا أنّهم ليسوا سوى خراف معدّة للذبح في سبيل حياة السلطان وديمومته. لا غرو، إذًا، من أن نشهد العودة إلى بربريّة الذبح والقتل العبثيّ. فالذبّاحون هم نتاج مجتمعاتنا المشحونة بالتعصّب والكراهية، نتاج التخلّف الدينيّ الذي أبعدنا عن أثقل ما دعانا إليه الله، عن الرحمة.

المشكلة تكمن، أصلاً، في التربية الدينيّة التي تجعل الأبناء أتباعًا لله الذي تصنعه شهوات آبائهم وأحقادهم. لذلك، يسعنا القول إن الأبناء لم يتحرّروا من انحرافات آبائهم، بل باتوا فرحين بكونهم أسراها وعبيدها، والآباء راتعين على عروشهم، يصنعون من أتباعهم مشاريع جزّارين وانتحاريّين.

أمّا في شأن المسيحيّة حصريًّا، فلا تقتصر الرمزيّة على العنف الدمويّ، بعد أن كانت كذلك عبر التاريخ، بل تشمل أيضًا كلّ أصناف العنف الروحيّ والمعنويّ واللفظيّ. هذا العنف الروحيّ، وإن لم يكن دمويًّا، ربّما يكون تأثيره يشبه القتل، قتل الروح الذي قال عنه المسيح أنّه أشدّ وطأة من موت الجسد. فماذا يمكن أن نسمّي ابنًا روحيًّا ألغى حرّيّته وعقله مسلّمًا نفسه لأب لم يصل، ولن يصل، إلى العصمة الكاملة من الخطيئة. “فليس إنسان يحيا ولا يخطأ”. ويقبل منه كلّ التوجيهات من دون نقاش، كما لو أنّها أوامر المسيح نفسه.

لو بقيت العلاقة منحصرة ما بين الأب وابنه، لكانت الحال أفضل من أن يمارس الابن على المجتمع والناس سلطة أبيه المطلقة عليه. سمعت مرّة، حين كنتُ طالب لاهوت، جدالاً حاميًا بين زميلين في شأن أيّ من أبوَيهما الروحيّين أفضل. يصبح، إذًا، الانتماء إلى أب روحيّ انتماء إلى حزب يروّج لرئيس حزبه الأقرب لديه إلى صورة الإله. والأب لا يتوانى عن التضحية بأبنائه من أجل الدفاع عن نفسه، ولو على حساب التعاليم الإنجيليّة. الأبوّة الروحيّة الحقّ هي أن يبذل الأب نفسه عن أبنائه حتّى الموت، لا أن يضحّي بأبنائه.

قال الربّ: “مَن أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. الصليب هو الأضحى الأسمى لدى المسيحيّين، والمسيح نفسه هو الأضحية. أن يكفر الإنسان بنفسه يعني ألاّ يؤمن الإنسان بأنّه لا غنى عنه، وأن يتمثّل بالمسيح راضيًا أن يُصلب كمعلمه. هكذا ينبغي لـمَن شاء اتّباع المسيح، أن يضحّي بنفسه كي يصبح مسيحًا آخر.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،2 أيلول 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share