الصحّة والمرض والقربى إلى الله

الأب جورج مسّوح Saturday October 28, 2017 258

“يا أخي جورج، جهادُك هو طريقٌ إلى الله، كمثل الصحّة. لا تُفوِّتْ عليك النعمة التي تأتيك من الجهاد. محنتُكَ من أحوال الدنيا. تعايشْ معها كما تتعايش مع الصحّة، والباقي على الربّ”.

المطران جورج خضر، متروبوليت جبل لبنان

المطران جورج خضر، العلاّمة في اللاهوت الأرثوذكسيّ، لا يقتصر لاهوته على الأبعاد النظريّة فقط، فالنظريّ يبقى عقيمًا إنْ لم يتنزّل على أرض الواقع الإنسانيّ. فما جدوى الكلام، على سبيل المثال، على الصليب ولاهوته إنْ لم يقترن بتذكير المسيحيّين بقول الربّ: “مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (متّى 16، 24). حمل الصليب هو الجهاد الأحسن.

يرى المطران خضر أنّ الجهاد واحد، وكلّنا مدعوّون إلى حمل سلاح البرّ والتقوى، لذلك لا يفرّق ما بين صحيح الجسم والمريض. كلاهما مطلوب منهما أن يسعيا إلى الجهاد ضدّ الخطيئة. محنة المرض من أحوال هذه الدنيا، لذلك لا يعتبره المطران خضر مهمًّا، لأنّ الأهمّ هو الجهاد في سبيل سلوك الطريق إلى الله الذي يمنحه إكليل الجهاد حياةً أبديّة. الصحّة يحياها الإنسان متوهمًا أنّها سوف تدوم إلى الأبد، لكنّها ما دامت من هذه الدنيا سوف تزول لأنّ الدنيا كلّها ستزول. فكيف يمكن لزائل أن يهب الحياة الأبديّة لزائل؟

“لا تُفوِّتْ عليك النعمة التي تأتيك من الجهاد”. يظنّ الناس، بعامّة، أنّ أرزاق الدنيا هي “نعمة من الله”، حتّى لو تمّ كسبها بطرق عوجاء. إنّ “النعمة” لديهم تقتصر على الكسب المادّيّ، أو الصحّة الجيّدة، أو الجمال الخارق، أو الذكاء الفائق. ولا ريب في أنّ “نعمة” كهذه النعم تزيد أصحابها من البشر كبرياءً تجعلهم يظنّون أنفسهم آلهة لا يمكن أن يفنوا في يوم من الأيّام. هذا هو الوهم الذي يُغرق الإنسان نفسه فيه فلا يحصد سوى الغبار الذي تذرّيه الريح.

أمّا النعمة الحقيقيّة فهي “التي تأتيك من الجهاد”، الجهاد الذي لا أولويّة قبله، “فاطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه، وهذه كلّها (حاجيّات هذه الدنيا) تزاد لكم” (متّى 6، 33). الجهاد الحسن ثماره الملكوت الإلهيّ، الملكوت السماويّ الذي يحيا فيه الإنسان إلى حياة أبديّة. النعمة الحقّ هي التي تدوم من دون انقطاع، فيما نعم هذه الدنيا زائلة مع زوال العالم الحاضر. المؤمن الحقّ هو الذي يؤمن بأنّ النعمة هي في العيش مع الله وقدّيسيه وخلاّنه، لأنّ الله خلق الإنسان ليحبّه ويحيا معه إلى الأبد.

“افتدوا الوقت لأنّ الأيّام شرّيرة” (أفسس 5، 16) يقول بولس الرسول. الوقت يركض، والإنسان يركض، لكنّ الوقت لا يتوقف إلاّ في اليوم الأخير، فيما الإنسان يتوقّف وقته ساعة تحلّ ساعته. لذلك ينبغي بالإنسان أنّ يفتدي وقته، مهما كان وضعه الصحّيّ أو الماليّ، بالأعمال الحسنة في عينيّ الربّ. الوقت لا يرحم أحدًا، والأيّام شرّيرة وتزداد شرًّا يومًا بعد يوم. لذلك ضرورة الجهاد في سبيل ألاّ يغدر بنا الوقت.

المؤمن هو الذي يستطيع أن”يتعايش مع المرض كما يتعايش مع الصحّة”، فالصحّة والمرض ليسا هما المعيار في نظر الله، بل الجهاد في ظلّ أيّ ظرف لبلوغ الهدف الأسمى. و”الباقي على الربّ”.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،28 تشرين الأول 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share