يعرض “القرآن الكريم” في متنه لثلاث شخصيّات أساسيّة ورد ذكرها في العهد الجديد، هي يسوع المسيح، ومريم أمّه، والقدّيس يوحنّا المعمدان خاتم النبيّين لدى المسيحيّين. سوف نتناول أدناه شخصيّة يوحنّا، أي يحيى في القرآن والتراث الإسلاميّ، ومدى قربها وابتعادها عن شخصيّة يحيى في التراث الإسلاميّ.
يرد ذكر يوحنّا المعمدان في القرآن مرّات عدّة تحت اسم “النبيّ يحيى”، وهو اسم يوحنّا كما كان سائدًا في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام. ففي سورة الأنعام (83 – 86) يرد اسم يحيى في اللائحة التي تذكر أسماء الأنبياء التوراتيّين من نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وداود، إلى زكريّا وعيسى وإلياس… ويعتبر القرآن أنّ كلّ هؤلاء الأنبياء الصالحين قد اصطفاهم الله لنشر رسالته، وهداهم إلى صراط مستقيم، وفضّلهم على العالمين. يجدر الانتباه إلى أنّ المقالة تتناول شخصيّة يوحنّا وليس سواه، لذلك لن أتحدّث عن “النبيّ عيسى”، أو كما يعرفه المسيحيّون “الربّ يسوع المسيح”. هذا سيأتي دوره يومّا.
يورد القرآن في ثلاثة مواضع منه قصّة الحبل بيحيى. ففي سورة “آل عمران” (83 – 86) يطلب زكريّا إلى الله أن يهبه ولدًا: “هنالك (في المحراب) دعا زكريّا ربّه قال ربّ هب لي ذرّيّة طيّبة إنّك سميع الدعاء”، فنادته الملائكة: “إنّ الله يبشّرك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله وسيّدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين”. معظم التفاسير تقول بشأن هاتين الآيتين إنّ الله يبشّر زكريّا بولد هو يحيى الذي سيكون مبشّرًا بمجيء كلمة من الله هو “عيسى ابن مريم”، وسوف يكون سيّدًا “يسود قومه بالعلم والفضيلة”، وحصورًا “لا يأتي النساء زهدًا”، و”نبيًّا صالحًا يؤدّي حقوق الله والناس، ومعصومًا من الذنوب”. اللافت في هذه الرواية أنّ زكريّا حين طلب إلى ربّه آية تؤكّد ولادة يحيى، قال له الله: “آيتك ألاّ تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلاّ رمزًا واذكر ربّك كثيرًا”. آية الخرس يرد ذكرها أيضًا في إنجيل لوقا (1، 18- 22)، ولكن ليس لثلاثة أيّام فقط بل مدّة الحبل كلّها.
سورة مريم هي السورة التي تكرّس الفقرة الأكبر للحديث عن يحيى (الآيات 2 – 15). يطلب زكريّا من الله أن يهبه وليًّا “ولدًا صالحًا”، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضيًّا (في أخلاقه وأفعاله). أمّا المقصود بالوراثة فليس المال بل النبوّة والصلاح. ثمّ تتابع سورة مريم: “يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميًّا”. هنا تلتقي الرواية القرآنيّة مع الرواية الإنجيليّة التي تقول: ” ولـمّا بلغ الطفل يومه الثامن، جاؤوا ليختنوه. وأرادوا أن يسمّوه زكريّا باسم أبيه. فقالت أمه لا بل نسمّيه يوحنّا. فقالوا لا أحد من عشيرتك تسمّى بهذا الاسم. فسألوا أباه بالإشارة ماذا يريد أن يسمّى الطفل؟ فطلب لوحًا وكتب عليه: اسمه يوحنّا” (لوقا 1، 59 – 63). ويضيف النصّ القرآنيّ: “يا يحيى خذ الكتاب بقوّة وآتيناه الحكم صبيًّا”. خذ الكتاب بقوّة “بجدّ واجتهاد”، وآتيناه الحكم صبيًّا “أعطيناه القدرة على فهم أسرار التوراة صبيًّا قبل بلوغ سنّ الرجال”.
تتابع سورة مريم وصف شخصيّة يحيى: “وحنانًا من لدنّا وزكاة وكان تقيًّا وبرًّا بوالديه ولم يكن جبارًا عصيًّا”. حنانًا من لدنّا (اسم يوحنّا بالعبريّة يعني: الله يحنّ)، لم يكن جبّارًا عصيًّا “لم يكن متكبّرًا ولا عاصيًا لربّه”. وتختم سورة مريم الحديث عن يحيى بالقول: “وسلام عليه يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيًّا” (الآية 15). وهي الآية نفسها التي توردها السورة عينها على لسان السيّد المسيح قائلاً عن نفسه: “السلام عليّ يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أُبعث حيًّا” (الآية 33). وهذا يعني، وفق التفسير الإسلاميّ، أنّ الله يبشّر يحيى وعيسى بأنهما سيقومان يوم القيامة. هنا يبرز الخلاف الجذريّ ما بين المسيحيّين والمسلمين في شأن قيامة المسيح التي يؤمن المسيحيّون بأنّها قد حدثت حقًّا.
لا ريب في أنّ القرآن، بالمقابلة مع الأناجيل، يروي جزءًا ممّا تقوله هذه الأناجيل عن القدّيس يوحنّا المعمدان. فالقرآن لا يذكر حادثة معموديّة يسوع في الأردنّ على يد يوحنّا، وشهادة يوحنّا عن الظهور الإلهيّ، وبشارته باقتراب ملكوت السموات، وقطع رأسه… غير أنّ القرآن لا يقدّم، في ما قدّمه عن يحيى، ما يخالف التراث المسيحيّ. يبقى أنّ شخصيّة يوحنّا في القرآن شخصيّة بهيّة يحبّها المسلمون ويقدّرونها. هذا ما يجب أن نراه ونعتبره لكي نبني جسور المحبّة وترسيخها ما بين المسيحيّين والمسلمين.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،13 كانون الثاني 2018