للسنة الثانية على التوالي، التقى حشدٌ كبير من عاملي مركز طرابلس في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة مساء الجمعة الواقع فيه 14 كانون الأوّل 2018، في كنيسة القدّيس جاورجيوس في بشمزين وقاعتها، للاحتفال بعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح.
ابتدأ اللقاء بصلاة عشيات الميلاد التي أمّها الأب أثناسيوس بركات، ثم تحلَّق الحضور حول جوقة القدّيس يوسف ناظم التسابيح التابعة لمركز طرابلس التي رتّلت ثلاث قطع من خدمة العيد، ليتأمّل فيها بعد ذلك الإخوة من أسرة العاملين، نيكول طبلية، جيرار خوري ورامي حصني.
بعد ذلك نقلَتنا جوقة المركز إلى أجواء موسيقيّة مميّزة، تضمّنت أناشيد وأغان ميلادية بثّت الفرح في القلوب جميعها. عقب الإنشاد تبادل المشاركون هدايا رمزيّة تعبيرًا عن فرحهم الكبير خاصة في هذا الموسم المبارك. وانتهى اللّقاء بمائدة محبة.
نقدّم الشّكر لكلّ من ساهم بانجاح لقاء الإخوة.
إليكم ما جاء في التأملّات الثلاثة:
لمّا وُلد الرّب في بيت لحم اليهوديّة، أتى مجوس من المشارق فسجدوا له إلهًا متأنّسًا وفتحوا كنوزهم بنشاط، وقدّموا له هدايا كريمة: ذهبًا خالصًا بما أنّه ملك الدهور، ولبانًا لأنّه إله الكلّ، وكمائت ذي ثلاثة أيّام، قدّموا مرًّا للمنزّه عن الموت. فهلمّوا يا جميع الأمم، نسجد للذي ولد ليخلّص نفوسنا.
لم ترد قصة المجوس في الإنجيل إلّا عند البشير متى، الذي كتب إنجيله لليهود المهتدين إلى الإيمان المسيحيّ. قال الانجيلي أن المجوس أتوا من المشرق، وقدّموا للطفل الالهيّ هداياهم، من ذهب ولبان ومرّ.
فهِمَ الأوّلون رمزيّة هذه الهدايا، كما عبّرت عنها هذه القطعة من صلاة المساء. “الذهب الخالص بما أنّه ملك الدهور، وبخور اللّبان بما أنّه إله الكلّ، والمرّ كمائت ذي ثلاثة أيّام” ، هذا المُرّ الذي استخدمه نيقوديموس لتحضير جسد يسوع للدفن.
المجوس الآتون من مشارق اليهوديّة، ربّما من بلاد فارس أو بابل أو الجزيرة العربيّة، هم وثنيّون يسجدون للكواكب كما تخبرنا طروبارية العيد. إلّا أنّهم أصبحوا باكورة الأمم التي آمنت بالرّب يسوع، بملوكيّته وألوهيّته وفدائه الخلاصيّ. مَلَك الرّب على قلوبهم وأذهانهم وصار سيّد حياتهم.
هم أوّل من آمن أنّ إلهنا يتمجّد في طراوة الرّضيع الممدّد أمامهم، وأنّه وُلد ليموت فداء عن كثيرين. مذهل مشهد هؤلاء المجوس، لم يبالوا بالملك الأرضي الذي استقبلهم سرًّا، ولا بثروتِه ولا جاهِه، بل ذهبوا للقيا طفل رضيع في البيت.
لم يهابوا هذا الملك الطاغية، ولم يخافوا من مشقة السفر، الطويل والخطير، تجرّأوا كجرأة يوسف الرّامي أمام بيلاطس، وعندما رأوا النجم متوقفًا فوق الصبيّ، فرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا، كما يخبرنا متى (متى 2-10). اضطرب الملك ومعه جميع أورشليم”، أما هم فوجدوا سلاما وفرحا.
****
إن ردّدنا اليوم سؤال المجوس، أين هو المولود لنسجد له، هل نجدك يا ربّ وسط ضجيج هذا العالم؟ مع كل ما يعتريه من ظلم وقهر وحروب؟ كيف نجدك ولا يحجبك عنّا مجتمع الاستهلاك الذي يوهمنا كلّ يوم أنّ الفرح هو في ما نملك؟
كيف نتجاوز إحباطاتنا و نتخطّى مآسينا؟ البلد يا ربّ تعيس، والناس تُصارع لتعيش، تأكلها البطالة وتفرّقها الهجرة، وكنيستك التي تريدها نقيّة لا عيب فيها، يتسلّل إليها الانشقاق والتعصّب والتفاهة والمجد الباطل.
لكنّنا نؤمن يا ربّ، أنّك معنا في كلّ محننا، وكما علّمنا تلميذك كوستي بندلي “أنت حاضر في صميم المأساة، أصبحت آلام البشر آلامك ومعاناة البشر معاناتك: أنت تعذَّب في المعذَّبين وتُضطهَد في المضطهَدين وتشرَّد في المشرَّدين وتجوع في الجياع وتؤسَر في المأسورين وتموت في ضحايا الكوارث الطبيعية أو الاقتتال بين البشر”.
نؤمن بهذا كلّه يا رب…لكن أعن ضعف إيماننا.
ساعدنا أن نعيش بمقتدى إنجيلك، في بساطة المشاركة التي هي وحدها الفرح الحقيقيّ، أعطنا أن نتلمّسك في كلّ لقاء مفرح نعيشه معًا في هذه الجماعة الحركيّة، هب لنا أن نراك في وجه كلّ محبّ، في براءة الأطفال وفي طهارة الشيوخ.
أعد لنا يا رب لهفة شبابنا الأولى، لهفة التفتيش عنك في كلّ معوزٍ أو وحيد أو متضايق، أشرق في نفوسنا نجمًا يفجّر فينا طاقات الخدمة والاهتمام بكلّ محتاج، تضعه في طريقنا، قد لا نلحظه وهو ربّما حولنا، أو حتى معنا.
أعطنا يا رب أن نصنع مشيئتك، حتّى نحقّق معك، السماء الجديدة والارض الجديدة، وندشّن، منذ الآن، الملكوت الذي أعدته لنا، الذي لم تره عين، ولم تسمع به إذن، ولم يخطر على قلب أحد. آمين.
****
“ماذا نقدِّمُ لكَ أيّها المسيح، لأنَّكَ ظهرتَ على الأرضِ كإنسانٍ من أجلنا. فكلّ فردٍ من المخلوقات الّتي أبدعتَها يُقدّم لكَ شُكرًا. فالملائكة التسبيح، والسّماوات الكوكب، والمجوس الهدايا، والرعاة التعجُّب، والأرض المغارة، والقفر المذود، وأمّا نحن فأُمًّا بتولًا. فيا أيّها الإله الّذي قبل الدّهور، ارحمنا. ”
هذه الترتيلةُ الشَّهيرةُ، المُختارةُ مِن صَلاةِ غُروبِ عيدِ التجسُّدِ الإلهيِّ، واضحٌ من مطلعِها أنَّ الخليقةَ عاجزةٌ عن تقديم ما يُمكن أن يوازيَ عطيّةَ السيِّدِ العُظمى، أعنِي بِها تجسُّدَه، إذ ارتضى، وَهو الإله العَليّ، أن يأخذَ طبيعتَنا البشريَّةَ السَّاقِطَةَ بِالخطيئة، لِكي يرفعَها إلى الفرَحِ الأبَدِيِّ، حيثُ يشاؤها أن تَكون.
ومع ذلكَ، فإنَّ كُلًّا مِنَ المَخلوقاتِ حاوَلَ جاهِدًا أن يُقَدِّمَ للطِّفلِ الإلهيِّ المُتجسِّدِ أَثمَنَ ما يَملِكُ، عُربونَ شُكرٍ وتَقدير، لِمَن هُوَ مُعطِي كُلَّ شيء. وَبِهَذا الفِعلِ، استَحالَ الكونُ إفخارستيّا عظيمةً، تَصرُخُ فِيها المَبروءاتُ لِبارِيها، بِاتَّفاقِ الأصوات: “الّتِي لكَ مِمَّا لَكَ، نُقَدِّمُها لَكَ عَن كُلِّ شَيءٍ، ومِن أَجلِ كُلِّ شيء”.
فنَرى الملائِكَةَ غيرَ الهَيولِيِّينَ يَرفَعُونَ التسبيحَ المُثَلَّثَ تَقدِيسُه: “قدٌّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ أنتَ يا الله”. وَهَا السَّماءُ تَجودُ بِكَوكَبٍ يَهدِي العالَمَ بِأَسرِهِ إلَى مَلِكِ الكُلِّ. أَمَّا المَجوسُ فَها هُم يَهرَعُونَ لِيُقَدِّمُوا لَهُ الذَّهَبَ لِأَنَّهُ مَلِكُ المُلُوكِ، وَاللُّبانَ لأِنَّهُ الإلهُ العَظيمُ، وَالمُرَّ لِأَنَّهُ، بِآلامِهِ، فادِي البَشَرِيَّةِ وَمُخلِّصُها. وَالرُّعاةُ البُسطاءُ يُقَرِّبُونَ، مَعَ قُلوبِهِم، التَّعجُّبَ وَالذُّهولَ، فَيَتركُونَ قَطِيعَهُم وَيُسارِعُونَ لِيَسجُدوا لِلطِّفلِ المَولُودِ فِي مَغارَةٍ حَقيرَةٍ وَالمُتَّكِئ في مِذَودٍ لِلبَهائِم…
وَأَمَّا نَحنُ البَشَرَ الَّذِينَ، بِحَسَبِ قَولِ بُولُسَ الرَّسولِ: “قَبلَما جاءَ الإيمانُ، كُنَّا مَحروسِينَ تَحتَ النَّاموسِ، مُغلَقًا عَلَينا إلَى الإيمانِ العَتيدِ أَن يُعلَنَ” (غل3: 23)، فَماذا عَسانا نُقَدِّم؟ وَمَن لَنا أغلَى مِمَّن حَقَّقَت فِي ذاتِها غايَةَ العَهدِ القَدِيمِ، فَأَضحَت ثَمَرَتَهُ الأَشهى، أَعنِي بِها الأُمَّ البَتولَ المُمتَلِئَةَ نِعمَةً وَالكُلِّيَّةَ القَداسَةِ، الَّتِي نَذَرَت عُمرَها لله، مُنذُ نُعومَةِ أَظفارِها، حتَّى “استَحَقَّت” – إن جازَ التَّعبيرُ- أن تَحمِلَ الإلَهَ فِي أَحشائِها جَنينًا وَأَن تُرَبِّيَهُ طِفلًا إلَهِيًّا، ثُمَّ تَتوارَى هِيَ لِيَزيدَ هُوَ وَيَتَجلَّى لَنا فِي مَجدِهِ الإلَهِيِّ السَّرمَدِيِّ، عَلى الأَرضِ كَما فِي السَّماءِ، فَيَرحَمَنا، نحنُ المُحتاجِينَ إلى رَحمَتِهِ الغَنِيَّةِ العُظمى… آمين.
****
أيّها المؤمنون لنرتقِ بحال إلهيّة ونعاين تنازلًا إلهيًا باديًا لنا من العلاء في بيت لحم علانيّة، وإذ نطهّر عقولنا بالسيرة لنقدّم الفضائل عوض الطيب ونسبق فنهيء بإيمان مداخل عيد الميلاد بين الذخائر الروحيّة هاتفين: المجد في الأعالي لله الواحد في الثالوث، الذي به ظهرت المسرّة في الناس، لينقذ آدم من اللعنة القديمة، بما أنّه محبّ البشر.
التأمل:
*يدعونا هذا المقطع الصلاتي الى الاتّحاد بسرّ التجسّد الإلهي وأن نشهد له.
*يؤكّد المقطع أنّ يسوع المسيح هو ابن الله الحيّ الآتي من العلاء. كما يؤكّد أنّ حادثة التجسّد لم تحصل بالخفيّ عن العالم، بل حصلت لكي يعرف العالم بأسره عن هذا السرّ الرّهيب “باديًا لنا من العلاء في بيت لحم علانية”.
*نستطيع أن نلتمس أو نستخرج من المقطع كيفيّة التهيئة والتحضير لعيد الميلاد واستقبال يسوع المسيح المولود من مريم العذراء:
اوّلًا، كلّنا نعلم أنّ العيد الحقيقيّ ليس في المظاهر والزّينة والثياب الجديدة والعشاء الفخم؛ يقول لنا الكاتب بكل وضوح أنّه علينا أن نطهّر عقولنا من الأفكار السيّئة. مثلًا، عندما نرى أحدًا دفع أموالًا كثيرة وطائلة على الزينة، ندينه ونقول: “لو دفع أقلّ وراح ساعد الفقراء والمحتاجين ما كان أحسن؟”
يا إخوة اتركوه يعمل الذي يريده واذهبوا أنتم وساعدوا الفقراء !!!
ثانيًّا، لنقدّم الفضائل عوض الطيب:
الله لا يطلب منا الأشياء الباهظة الثمن، يطلب منا تقديم الفضائل، محبة الآخرين دون مقابل، مسامحة الآخرين، مساعدتهم، والاهتمام بهم….
*يؤكّد المقطع على عقيدة الثالوث القدوس أنّ الله، يسوع المسيح والرّوح القدس واحد في ثلاثة أقانيم.
أيضًا، إنّ يسوع المسيح هو سبب الفرح والمحبة التي تظهر في الناس.
يسوع المسيح سوف ينقذ آدم من اللعنة القديمة. فيرمز آدم لكلّ شخص منّا وكلّ شخص في العالم، أمّا اللعنة فترمز للخطيئة. أيّ أنّ يسوع سينقذ كلّ أحد منّا في العالم من الخطيئة.
هذا كلّه نتيجة لمحبّته السرمديّة للبشر (“بما انّه محبّ للبشر”).
أخيرًا، المجد لله في العلاء وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة.
ميلاد مجيد.