متى الميلاد؟

رينيه أنطون Tuesday December 25, 2018 769

القدّيسون أشخاصٌ صدَّقوا الانجيل، وَثَقوا بالربّ. صدَّقوا وعدَه بالفرح الآتي. آمنوا أنّ هذا الطفل الذي يسكنَ المغارة هوَ الاله المتجسّد، وذاك الجسد المطروح على الصليب هوَ جسده هو. أيقَنوا عظمةَ الحدث لتُحصَرَ به المكانةُ في ضمائرهم وقلوبهم ويعايشوا المسيحَ فيها.
بالمعايشة، هذه، فَهِم القدّيسون أنَّ تنازل الله، وفداءه، هما دعوةٌ يَنتظرُ المسيح جوابَنا عليها، وأنَّ قبولَها لا يُبَلَّغ للربّ بغير الأعمال. فالله خطَّ دعوته لنا بارتجاف الجسد بردًا، والموتِ، فداءً، صَلبًا. فبالأعمال قبلوا الدعوة. هزموا مأساة الانسان فيهم، كَسَروا الموت، وُهِبوا الرّاحة ونالوا الثراء. راحةُ تكليفِهم بلَفحِ ما حولهم بنسيمِ الملكوت، وثراءُ مجانيّة خدمتهم في الأرض، الثراءُ بمُلكيّةٍ في مذود الربّ.
المسيحيّة هي الشغفُ بهذه القداسة، هي هذا القبول وفقط. دونَه، يلغو المسيحيّون بمسيحٍ لا تستسيغ جدّيته اللغوَ. فهي الجدّية التي تتقيّأ الفاتر، التي “قالت حبَّها” بجسدٍ مكسور ودمٍ مهروق. المسيحيّة هي أن نشتَهي أنفسَنا حجارةً من صخور المغارة الحاضنة مَن لا مأوى لهم، أن نشتَهيها حروفًا من الكلمة نرصُفها رسمًا لإطلالته الوديعة الفادية، التي شاءَها، في سماء العالم.
ككلّ عام يعود الميلاد إلى ضمائرنا، وليسَ مهمًّا أن يعود قدرَ ما يهمّ أن يبقى الطفلُ الذي يحملُه فيها. يعود الميلاد، وأقسى ما يتحدّانا، كمسيحيّين، باقٍ كما هو، الشَغَف بالاسمِ دون الشَغَف بالفِعل. المساهمة في تسطيح تجسّده. الاستخفاف، بحجّة الضعفات، بلفحةَ ألوهته فينا، وتشريع مزوده في قلوبنا لعصفِ أعاصير الدّنيا في أهوائنا. التجربة الأخطر هي هذه، أن نستسهل، بحجّة الضعفات، خيانةَ الربّ. هي التجربة المستمرّة طالما أنّ العالم موجودٌ وقائم. فهذا العالم، بمُغرَياته التي تأخذنا بعيدًا عن سيّد العيد، لن يتغيّر. العالمُ لا يتغيّر لأننا، نحن، لا نتغيّر. ما لم يتغيّر المسيحيّون، ما لم ينعكس فينا الشَغَفُ بالقداسة، أي بالفِعل الانجيليّ، ما لم نُصَدِّر ثقافة “التجسّد” على ثقافة “الوعظ”، فالعالم لن يتغيّر. العالم لا يتغيّر بمَن يُشبِهُه، وإن ادّعى الشبيه غير ذلك. العالم يتغيّر بمَن يَختلف، بمَن يُشبِه أهلَ السماء من أهله. بمَن هو “فيه وليس منه”. بكَلمات، العالم يتغيّر بمَن يمدّ فيه، عيشًا، مفاهيمَ حياة تختلف عمّا يسود فيه من مفاهيم.
السؤال الذي يطرحُه كلُّ عيد علينا، أَحقًّا يمدّ المسيحيّون، عيشًا، ما يختلف في حياة العالم؟
مثالاً، كم نشكو في خطاباتنا وعظاتنا وتعليمنا من وحش الاستهلاك والأنانيّات والمصالح الفرديّة والتشرذم، ونخاطِبُ بالفقير والشَركة وما إلى ذلك؟ وبِما نواجه هذه التحدّيات كجماعةِ أبناء؟
بمِثل ما يواجهُه كلُّ مَن مِنَ العالم. بسقوطٍ في مُغرَياتها، وإن أرفَقناه بعطاءٍ موسميّ ننثره، فُتاتً، على هذا وذاك من المحتاجين إرضاءً لضمائرنا واهمين أنّنا، به، نُرضي الربّ. بتكاذبٍ كتكاذبِه. بتسلّطٍ كتسلّطه. بتَخاصُمٍ كتَخاصُمِه. بسعيٍ إلى مكانةٍ في عيون الأرض كسعيِه. بإجلالٍ لصوَر الأغنياء كإجلاله، وتجاهلٍ لإيقونات البُسطاء كتجاهله. بخوفٍ من الوحدة، لا عليها. برعايا تُقرِض أخرى ولا تَهبها، هذا إن فَعَلت. بأبرشيّات تكتفي بذاتها، بكنائس ينهَش بعضُها مِن بعض.
الميلاد يعود، وسيعود. فجرحُ الله بنا مفتوحٌ. لكن، ومرّة أخرى هذا العام، لن يرتاح صاحبَ العيد ويستقرّ، هنا، معنا. هذا لأنّنا ما زلنا في عتاقة الأمس، لم نتغيّر. فَيومَ نتغيّر، يومَ نصدّق، حقيقةً، الانجيل، يومَ نستحيل خلايا شركويّة قُوُتها التخلّي، يومَها سيبقى المسيح هنا ليقول للعالم: هذا ملكوتي وهؤلاء هم أبنائي. وإلى حينه، نحن جماعة موعوظين، شاخصين إلى البنوّة، وإن أعلنَتنا رحمة الربّ أبناء.

24 Shares
24 Shares
Tweet
Share24