من كلمة الشيخ غسان الحلبي في اللقاء حول الأب مسّوح الذكرى السابعة والسبعين

غسَّان الحلَبي Wednesday March 20, 2019 709

“بالرُّوح الَّذي يُحيـي”

إنَّ مسارَ المكوِّنات المعرفيَّـة التي ضَلُعَ بها الشابّ جورج مسُّوح حتَّى سنِّه الخامسة والثلاثين أرْسَت روحَهُ في “سرِّ الكَهَنُوت”، كاهِناً ب”التَّماهي” مع “الكَلمة” التي كانَ عندَ الله وكانَ هوَ الله، و”كلُّ شيءٍ بهِ كان، وبغَيْره لم يكُن شيءٌ مِمَّا كان”. ف”الكلمة” عندهُ، لم تعُد مُجرَّدَ حرفٍ بل هي الرُّوح الَّذي يُحيـي، لذا، حين آنَ أوانُ “الكلام” لم يكُن أمام الجَمْع رجلَ دينٍ قـيَّدتهُ الـمُواضعات الدينيَّة-الاجتماعيَّة-المؤسَّساتيَّة، بل رجُلَ الـمعرفة التي تَهَبُ الـمُحِبَّ للحقِّ، المؤمنَ به، شجاعةً لا يعرفُها كلُّ الَّذين طغَتْ على قلوبِهم علائقُ الحياةِ الدُّنيا.

لقد بُنيَ عقلُه المعرفـيّ بناءً رياضيّاً، وإذا أخذنا بعيْن الاعتبار مقامَ الرّياضيَّات عند أفلاطون وهو العِلمُ الَّذي يُساعدُ العقلَ على إدراكِ الـمُجردَّات أي رؤية الـمعقول فيما هو ثابتٌ خلفَ عَرَضِ المحسُوس، لأدركْنَا مدى الامتيازِ الَّذي اكتسبهُ “الحرَكيُّ” حين تابعَ ارتقاءَ سُلَّمِ العِلم بعد ذلكَ بدراسةِ اللاهُوت، مستنداً إلى إيمانِه الأورثوذكسيّ والوصيَّةِ التي يحبُّ أن يردِّدَها عن بولس الرَّسول: “احفظِ الوديعةَ الصَّالحةَ بالرُّوح القدُس الحالّ فينا”……

بعد ذلك اختار المضيَّ قدُماً إلى قلب العواصف، في أعالي البحار، لسبْر أغوار أكثر الإشكاليَّاتِ تعقيداً في عصرنا: “العلاقات الإسلاميَّة المسيحيَّة” من باب رؤية رجال الدِّين المسلمين في لبنان للمواضيع المسيحيَّة، دخولًا إلى عالم التفسير القرآنيّ بكلِّ اتّجاهاتِه، دارساً كلّ التقاطعات للوقوفِ على المساحات الزاخرة بإمكان “الخيرات الآتية”، ولكن أيضاً كشفاً بكلِّ صراحةٍ عن مكامن الخطر وكَمائنِ الأشراكِ والألغام.

لم يكن وحيداً، كان مزوَّداً بالرُّوح الَّذي “يهُبُّ حيث يشاء”. يستشعرُهُ روحاً للخَلقِ والحياة، أمَّا ثمارُه فهي “المحبَّة والفرحُ والسَّلام والأناةُ واللطف والصَّلاح والإيمانُ والوداعة والعفاف”. وأيضاً، كانَ مُلهمَه في شِعابِ البحثِ الشاقّ فعلًا، الكبير المطران جورج خضر. فقد سبقهُ بالطَّبعِ إلى أفكار أساسيَّة في هذا الخضمّ (هذا إن ما شاءَ الباحثُ أن لا يكونَ من الهواةِ في مسألة “الحوار الإسلامي- المسيحي، بل من الَّذين يعتبرون الأمرَ مسألةً وجوديَّة متعلِّقة بإمكان مستقبلٍ حضاريّ للشَّرق برُمَّتِه.) وأهمُّ تلك الأفكار: الدَّعوةُ إلى التباصُر في تراث الآخَر من حيث يفهمُه ذووه لا من حيثُ دوغمائيَّات مُسبَقة يُسألُ عنها التَّاريخُ قبل أن يُحاكمَ فيها الإيمان. أيضاً، الفكرةُ/النِّبراس التي ترتكزُ عليها النَّظرةُ اللاهوتيَّة إلى الأديان كافَّة، وإلى الإسلام خاصَّة، والتي صاغها المطرانُ بتعبيرٍ- تُحفَة وهي: “إيقاظُ المسيحِ الرَّاقدِ في ليْلِ الأديان”، يريدُ “أنَّ المسيحَ ليس محصوراً في إطار الكنيسةِ التاريخيَّة، بل هوَ موجُود في كلِّ كشفٍ إلهيّ…”………

***

كانَ ثمَّة هاجسٌ في الأساس، عميق في الرُّوحِ الباحثة، هو وعيٌ جذريٌّ بأنَّ المشرقَ كان في النّصف الأوَّل من القرن العشرين يُجاهِدُ، بعد أفُول الدولة العثمانيَّة ودخُولِ الغرب غانماً للتركة، للخروجِ من “الانحطاط الفكريّ والدّينيّ والرُّوحيّ”. وليس انحطاطُ الدَّولةِ و”مرَضُها” كانا سبباً في ذلك وحسْب، ولكن، فيما خصَّ كنيستَه بالذات، كان السَّببُ الأهمّ “هو الجهل باللاهُوت وبالتراث الكنسيّ الحيّ.”، هذا يعني بالمعنى الأعمّ جهلًا بالرؤية الحضاريَّـة لوجودِ الجماعةِ عيْنها. والفكرةُ التي تردَّد صداها في القلوبِ والعقُول (وهي للخُضْر ذاته) يُمكنُ تلخيصها بكلمات: الـمُبادَرة، والحَركَة، و”اليوم، الآن وهنا”.

حملَ الأبُ جورج مسُّوح عِلمَهُ المتنوِّع الثمين مُخلِصاً للكلماتِ المذكورة حتَّى الرَّمق الأخير في حياتِه. هكذا، بات خطابُه ”

لا يستقيم من دون أخذ السياق الراهن المحيط بالمسائل المطروحة منطلَقاً لاستنطاق الكلام الإلهي والتراث الكنسي”. إنَّه تشبُّثٌ بالـمُثُل في قلب حركة الواقع ووعيه. وأكثر ما يتجلَّى هذا السِّجال الحيويّ “الـمُعاصِر” حين يستعرض المرءُ سجلَّ مقالاته في “النهار” عبر سنوات، وفي كلٍّ منها موقف هو القطرات الـمُصفَّاة من ذخائر عِلمه ومعرفتِه وإيمانه المترسِّخ في كيانه الإنسانيّ. وهو لم يبتدع ثوابتَه، وإنَّما يُمكن استقراؤها من وصايا “المجمع الأنطاكي”: التاريخ المشترَك (المشرقيّ)، نبذ الطائفيَّة، الإيمان ب”العيْش معاً”، التَّحرُّر القومي وقضيَّة فلسطين والقدس والولاء غير المشروط للبنان. وفي لمسةٍ منهُ يزيد: قضيَّة الإنسان العربيّ المقهور…..

تبقى مسألة “العَلمانيَّة” التي يقاربُها الأبُ مسُّوح انطلاقاً من مُعطيات الواقع الذي وضع أمامنا إمَّا الدولة المستبدَّة وإمَّا الدولة الدّينيَّة، وهو مع ما قاله “المؤسِّس” بأنَّ الأرثوذكس “علمانيُّون استراتيجيّاً”، ذلك أنَّ النُّخَب السلطويَّة في القرن العشرين فشلت فشلًا ذريعاً في بناء الدَّولة الوطنيَّة العادلة. ويعبِّرُ بقوّةٍ عن رفضه لدولةٍ عَلمانيَّة مستبدَّةٍ، فالموقف من أيِّ دولةٍ يقومُ على مدى احترامها حرِّيَّة الإنسان وحقوقه وكرامته، وصفةُ الدَّولة لا تعنيه في شيءٍ بقدر ما تعنِيه المعايير التي تعتمدُها في ممارسة الحُكم.

ماذا تقولُ لنا حياةُ جورج مسُّوح اليوم بكلِّ إنجازاتها وألـمِها الأخير؟

تقولُ: “أنا حاضرة بينكُم، الآن هنا”، ذلكَ أنَّها جسَّدت شهادةً حيَّة، ليس برسمِ الماضي أو الحاضِر وحسب، بل برسمِ الـمُستقبَل خصُوصاً، شهادةً هي من ذخائر التراث الوطنيّ والمشرقيّ، لكلِّ اللبنانيّين والمشرقيّين، لأنَّها “بالرُّوح الَّذي يُحيـي” كان ما كان منها وما سوف يكون.

16 آذار 2019

 

49 Shares
49 Shares
Tweet
Share49