مِن كلمة الأديب والصحافيّ الياس خوري في اللقاء حول الأب جورج مسّوح، الذكرى السابعة والسبعين

mjoa Thursday March 21, 2019 634

“الغريب العابر”

عدت إلى كتابات جورج مسوح بحثا عن عبارة هي كناية عن مقال صغير كتبه عن الغريب. رأيت في هذا الغريب صورتي مثلما رسمتها وأنا أحاول أن أكتب حكايات المهمَّشين الذين أخذوني إليهم، كي استأنس بغربتهم في مواجهة وحشية التاريخ ووحشة الانسان العربي…..

في كتابه، “الآن وهنا” يتوقف جورج مسوح عند يسوع الناصري بصفته غريبا، مستلهما الترنيمة الكنسية التي تؤدى في طقس الجمعة العظيمة: “أعطني هذا الغريب”.

فالناصري الذي “تغرب منذ طفولته كغريب”، كان كصديقي جورج مسوح غريبا وعابرا، ُغربته كانت عبورا إلى الآخرين. “فكل غريب للغريب نسيب”، كما علمنا شاعرنا الأول امرؤ القيس.

بحثت عن هذه العبارة التي تلخص حياة هذا الرجل الذي نلتقي به اليوم، من أجل أن نستعيد شهادة الحب والألم التي كتبها بجسده وروحه، وهو يخوض غمار رسالته ككاهن ومثقف ومجاهد من أجل الدفاع عن الغرباء، الذين هم مرايا أرواحنا.

جورج مسوح هو أحد أغصان الشجرة التي زرعها جورج خضر في كلماته الرؤيوية، كلمات غرست في قلوبنا محبة الحقيقة، جاعلة من لغة العرب حقلا تتلاقح فيه الأرواح بحثا عن قبس الكلمات.

عندما رثى محمود درويش صديقه ادوارد سعيد، قرأنا وصية المفكر للشاعر” “إذا متُّ قبلك أوصيك بالمستحيل”، هذا المستحيل الذي هو طموح كل أدب، تجسد في الغريب الذي “ليس له أين يسند رأسه”.

قلت للمطران جورج خضر ان ترتيلة الغريب واحدة من أجمل القصائد التي قرأتها، لأنها تقترب بالكلمة من المستحيل الذي صار كلمة، وسألته عن اسم كاتبها، كما سألت الأب جورج مسوح عن اسمه أيضا، لاكتشف أن سؤالي لا أهمية له، فالكاتب لا ُيعرف باسمه بل بنصه، هناك تذوب جميع الأسماء في كتاب الحب.

حورج مسوح، السوري- اللبناني، لم يكن أسير هويتيه، على الرغم من أن هاتين الهويتين اختزتا كل آلام العرب، بل كان إنسانا، أي ابنا لأديم هذه الأرض الشاسعة، التي لا يحدها سوى الوجع. وهو كمعلمنا جورج خضر، جعل من العروبة انتماء انسانيا، ومن التنوع الثقافي والانساني ينبوعا لاكتشاف الذات في تعاليها عن الانتماءت الضيقة. في عمله كاستاذ وكاتب وكاهن، كان هذا الرجل انسانا أولا، فالغريب الذي اتخذه نموذجا لحياته كان يعرف نفسه بصفته ابنا للانسان.

قرأنا مسوح واعظا ومفكرا لاهوتيا ومحاورا للاسلام، عن هذه الجوانب لن أتكلم اليوم. فهناك من هم أكثر مني معرفة بتجربته الروحية، لكنني أريد فقط أن أقدم شهادتي عن رجل لم أره يوما الا على صورة الغريب العابر.

الغريب هو الانسان، كلنا غرباء ومنفيون بطريقة ما، حتى من احترف اضطهاد الغرباء وحول كلمة غريب وغرباء إلى دعوة للقتل أو الطرد، ليس في النهاية، سوى غريب مثلهم، وسوف يعلمه الزمن المنقلب دروس غربته.

كلمة “العابر” هي السؤال.

ماذا أعني حين أقول أن جورج مسوح كان إلى جانب وعيه بغربته يعرف أنه عابر.

يجب أن أعترف بداية أنني استخدمت فعل الماضي الناقص –كان- بشكل غير ملائم هنا. فالموت لا يجعل من الانسان ماضيا، الموت مجرد استعارة لوصف الغياب الجسدي، أما الانسان فلا يخضع لهذا القانون، لأنه يمتلك طرائقه المتعددة للحضور .

أما كلمة عابر فتحتمل معنيين:

المعنى الأول هو المؤقت الذي لا يترك أثرا، فالعابر لا يدوم. الاحتلال أو أنظمة القمع أو المستبد الذي يعتقد أنه تجسيد للأبدية، مسائل عابرة ليس فقط لأنها إلى زوال، بل أيضا لأننا نسعى إلى التحرر منها ومن ذاكرة الألم التي تأتي به.

المعنى الثاني هو العبور، انه الفصح الذي كان، منذ أساطيرنا الكنعانية القديمة وصولا إلى المعتقدات المسيحية، عبورا من الموت إلى الحياة.

العبور كان جسر خليل حاوي إلى الشرق الجديد. جعل الشاعر من ضلوعه جسرا، مثلما جعل الناصري من موته سلما. هذا العبور، رغم دلالاته الروحية والدنيوية التي تتلاقى وتفترق، هو المعنى الأخير الذي يصنعه الموت كي يتحول إلى أحد استعارات الحياة.

موت الفلسطينيات والفلسطينيين أمام جدار غزة وفي القدس ومدن الأرض المحتلة وقراها………

هذا الموت هو جسر إلى الحياة.

حتى عندما يقوم المحتلون والطغاة بالقتل، فإن الحلم يعبر إلى حيث يشاء. الغريب لا يتغرب الا ليعبر. هذا ما قاله لنا جورج مسوح في كلماته وحياته.

في العلاقة بين الكلمة والحياة، تصير الكلمة حياة، لأن الحياة تتحول إلى كلمة. هنا يكمن سر هذا الرجل الذي نلتقي به اليوم من خلال كلماته وعير النموذج الحي الذي صنعه في مختلف أوجه حياته.

التقي به اليوم كأنني التقيته بالأمس، فأمس واليوم وغدا، نحن لسنا سوى شهود، والشاهد كما يعلمنا لسان العرب، هو الشهيد.

اتيت اليوم كي أشهد لجورج مسوح، فأكتشف أن هذا الانسان يشهد لنا جميعا، لأنه عجن شهادته بالألم، كي نعبر مع شهادته من عتمة العرب إلى ضوء الحرية المشتهاة.

116 Shares
116 Shares
Tweet
Share116