نقاط على الحروف الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. ( ٨)

الأرشمندريت توما بيطار رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ Sunday June 30, 2019 216

تتكلّم على الموت أو لا تتكلّم عليه، يبقى إحساسُك بأنّك مائت كامنًا وراء كلّ ما تعمل. يدفعك إلى كلّ ما تأتيه. إمّا تستسلم له فتحيا على “المخدّرات”، من كلّ نوع، في مسعى للهرب منه. حياتك، إذ ذاك، سلاسل هروب!. وإمّا تتعلّم أن تحبّ لتقوى عليه. وحده الحبّ أقوى من الموت!. هذا وحده هو الصّليب اليوميّ المشروع والنّافع الّذي دعاك الرّبّ يسوع المسيح إلى حمله، إذا أردت اتّباعه، لأنّه بالصّليب وحده أتى الفرح إلى كلّ العالم!. للحبّ عناؤه طبعًا. ولكنْ، ما لم تكن حياتك عناء من أجل الحبّ فلا حياة تأتيك. تسير من موت إلى موت إلى الموت!. التّعب، التماسَ الحبّ، هو وحده الدّواء المرّ الّذي يقوى على الأمرّ. بالموت الإراديّ، وحده، من أجل الحبّ يقوى المرء على الموت المفروض عليه بالطّبيعة المائتة!. الحبّ متى سكن في الموت الّذي يعتمل فينا، كلّ يوم، يحقّق قولة السّيّد: “مَن كان حيًّا وآمن بي فلن يرى الموت إلى الأبد”. حتّى موت الجسد يصير في خدمة الحياة!. أمّا بعد، فالحياة تأتي من الحبّ. المحبّة تسبق الحياة. المحبّة هي الكيان. والحياة نتيجة. المحبّة تُحيي ولا حياة حيّة من غير محبّة، لأنّ الله محبّة!. في ما عدا ذلك كلّ مسعى للإفلات من الموت، مهما كان ذكيًّا، غباء وتفه!.

رجال الله لا نفهمهم ولا نفيد ولا نتعلّم منهم إلّا إذا أحسسنا، في عمق كياناتنا، بما أحسّوا ويحسّون هم به بقوّة. تلاقِينا وإيّاهم، في مستوى القناعات والعواطف والأفكار وحدها، لا قيمة له!. نقرأ عنهم، إذ ذاك، ولا نقرأهم!. لذا لا نعرفهم إلّا إذا عرفنا ما خرجوا من العالم من أجله!. لا ينتظرون أن يُخرجهم الموت من العالم؛ يَخرجون هم إليه، هنا والآن، بإرادتهم!. وليس أحد إلّا يعرف، في قرارة نفسه، إن شاء، ما خرجوا من أجله. ما فيهم فيك!. فقط يحيون في وصيّة المحبّة لأنّهم يأبون أن يموتوا، وأنت تحيا، في استسلامك للموت، وأنت لا تعلم، إن استغبيت المحبّة، إذ تهرب كيانيًّا، بمتع العقل والنّفس والجسد، لتنسى، إلى أن تسقط، أخيرًا، رغمًا منك، صريعًا!. الباقي تفاصيل!. لكنّنا نبحث عمّا وراء التّفاصيل!.

كان الأب الياس رجل الله. بهذا المعنى الّذي أبديته كان رجل الله. كلّه كان توقًا للحياة والفرح، وكلّه كان إحساسًا عميقًا بالموت في آن!. والحياة والفرح لديه كان لهما رقيّ. لم يكن بإمكانه أن يكون مبتذلًا. الهرب من الموت لا يكون، في الحقيقة، إلّا بالابتذال، لأنّ الخطيئة هي في الابتذال، ووحدها الخطيئة شوكة الموت. الحياة والفرح، في رقيّ النّفس، مجبولان، أبدًا، بالحزن، بسبب الموت!. لذلك، حدْ عن الخطيئة، يشدّك الفرح والحياة، لا محالة، إلى مسيح الرّبّ!. فلأنّ الأب الياس التزم الحياة والفرح، لذلك خرج من العالم لأنّ مباهجه مجبولة بالابتذال. في العالم حزن يترسّخ، ومن ثمّ خطيئة تتفشّى حتّى اللّاحسّ!. لا حلّ ولا جواب!. الحياة والفرح اللّذان لا يُنزعا منّا، ليسا، هناك، في الخارج، في العالم، بل في الدّاخل، في القلب، في عالم القلب، في الحبّ!. من هنا أنّ مذاق الفرح والحياة، لدى الأب الياس، هو ما دفعه إلى التماس الفرح الّذي لا يخبو، والحياة الأبديّة!. ما هو هنا ليس فقط ناقصًا بل معطوب!. لا يمكنك أن تَسلم من الخطيئة، في العالم، لا سيّما في الزّمن الأخير، إلّا بشقّ النّفس!. أما قيل “محبّة العالم عداوة لله”؟. وأما قيل أيضًا: “اخرجوا من وسطهم واعتزلوا، يقول الرّبّ. ولا تمسّوا نجسًا فأقبلكم وأكون لكم أبًا، وأنتم تكونون لي بنين وبنات” (2 كورنثوس 6: 17 – 18)؟.

قلّما تكلّم الأب الياس على الموت، من زاوية ما يعتمل في نفسه في شأنه. فقط، أذكر، في موقف وجدانيّ، أنّي أبديت أنّ الإنسان يعيش مع الآخرين ويموت وحده. وإذ نظرته في عينه، رمقني بإيماءة فيها الموافقة والدّمعة والانكسار!. لعمري، علّمتني الحياة أنّك بمقدار ما يعظم الحنان فيك يعظم الإحساس الكيانيّ بالموت فيك والعكس صحيح!. وأقصد بـ”الكيانيّ” ما هو من الواقع العميق، ولكنْ، ما هو من الأصالة الإنسانيّة في آن!. هذا يشدّك إلى النّاس لا عنهم، لأنّه لا جواب غير النّاس، أعني الحبّ!. الطّبيعة البشريّة، متى صدقت، تقول ذلك!. أمّا الهرب من النّاس فيعكس مسعى للهرب من الموت على نمط قايين ملعونًا!. إشفاق الأب الياس على الطّبيعة البشريّة حتّى الدّمع كان من قبيل مواجهة الموت في نفسه وفي النّاس!.

وللصّلاة، أيضًا، موقعها في الحرب اللّامنظورة الّتي مع الموت فينا وفي العالم!. الصّلاة قَبَس من محبّة الله، أو قل من الله المحبّة. هي روح الحياة يبثّها العليّ فينا. كلمة، حركة، نأمة قلب، طفرة حسّ عميق يحرّك بها ربّك حشا الإنسان، يستعيده إنسانًا أصيلًا، يعلو به على ترّهات الخطيئة، يصله بذاته (بذات الله)، ومن ثمّ بذات الإنسان، كلّ إنسان، في انعطاف على بشريّة امتلأت جراحًا!. “أريد رحمة لا ذبيحة”!. بهذا المعنى بالذّات، كان الأب الياس رجل صلاة بامتياز!. صلاته امتلأت دموعًا، من معين الدّم والماء، الخارجَين من قلبٍ انعصر على بشريّة قاسية وجريح في آن!. الدّموع الرّقراقة ترقّق العظام وتجعل الكيان على رقّة أخّاذة!. وبكى يسوع!.

لم أكن مع الأب الياس، عندما أسلم الرّوح. ولست أعلم إن كان مَن جَانبه في ساعته الأخيرة قد درى في لحظة الفراق بما جرى في تلك النّفس الّتي كان الحسّ بالموت، أبدًا، يشتملها قبل كلّ شيء، وفي كلّ شيء، وبعد كلّ شيء، على مدى السّنوات الّتي اعتزل فيها عن نفسه والعالم. أعلم أنّه في الثّلاثاء عصرًا، قبل صعوده إلى ديره، ليرقد في الأربعاء، أنّه كان إلى هناك، هنا، حاضرًا إلى ربّه، لدينا، عندما ركعنا أمامه، وصلّى علينا صلاته الأخيرة. كانت حجّةَ الوداع إلى أن نلتقي، ونحن في اللّقيا، اليوم وغدّا فيه. لا أذكر كلماته. أذكر أنّه سكب روحَه فيما طفر كيانُه في عينيه، وقال الحبّ كلّه!. لم يكن على أسًى!. كان في الرّجاء الكبير!. أحببتكم وأُحبّكم!. ألا كان مسيح الرّبّ ربيبكم إلى أن نلتقي!. بعد ذلك، صعد إلى صومعة ديره واستعدّ!. استحمّ بالماء والدّمع!. وجلس في سريره ينتظر الآتي. فلمّا أتوه بالكأس المقدّسة، والقدّاس الإلهيّ يُقام في الدّير كلّ أربعاء وسبت، إضافة إلى الآحاد والأعياد، ساهم القدسات، ورفع عينيه إلى فوق، كعادته، وغادر!. الله معك!. الله معكم!. قد تمّ!. وأحنى رأسه وسافر!. وأسفر اليوم عن روح من الرّوح انبثّ فينا منه من جديد!.

خرج الأب الياس إلى بيت لحم السّماويّة لأنّه كان من أمّة الملوك!. وفي السّنة الثّامنة عاد إلى “ناصرتنا” جديدًا من جِدّة لم أُدركها تمامًا فيه، في حياته. بعدما رقد صار إليّ أدنى إلى تاريخ!. رائحةً عطرة!. لكنّي لم أعرفه في أعماقه. كان فيّ خبرة، لكنّي لم أكن منه كلمة. احتاج الأمر إلى ثمانية أعوام ليُكتتب بيننا. شيء فيّ، إذ ذاك، استيقظ. رأيته في روحه كما لم أره من قبل. كان فيّ ولم أعرفه. كان ذلك في أسبوع ميلاده، هذا العام. إذ ذاك امتدّت فيّ الرّغبة في كتابته، وأنا لا أعرف كيف أُبحر. ألفيتُه فيّ وأنا فيه، منّي وأنا منه. لم أعد أدري: أَمِن ذاتي أكتب، أم منه؟. كأنّي في السّنوات الّتي ربّاني، تكوّن فيّ منه ما صار منّي ولم أَعِه!. صرتُ كأنّي أكتب أو أرضى أن يستكتبني ذاتَه، غيرَ عالم بما إذا كان ما يتفتّق لديّ من الكلام، منه أو منّي!. أنّى يكن الأمر، فلست أعرف الكتابة، كما سبق لي أن خبرتُها، على يُسر، ولا من أين تأتي، كما أعرفها هذه الأيّام!. إحساس عميق واحد حادّ يقبض عليّ أنّ ربّك يشاء لخفيّات الرّجل أن تخرج إلى النّور!. ما انقطع، تدبيرًا وتخميرًا، يعود إلى الوصال من جديد…

لتستمرّ القصّة…

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 30 حزيران 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share