هذا الزّمن هو زمن العلم بامتياز. ما بات موفورًا للبشريّة، على هذا الصّعيد، خلال المائة العام الفائتة، يفوق التّصوّر، قياسًا بما حصّلته البشريّة، عبر تاريخها، من مطلع مسيرتها الحضاريّة، إلى اليوم، لجهة تراكم معارفها. تفجّرٌ، كأنّه غير محدود، للعلوم، وتوق إلى العلوم، وسعي إلى اقتناء العلوم، أو ما تخرج به تكنولوجيا العلوم، كلّ يوم، أو ما تُسلّط عليه العلوم، ومكتشفاتها، وآليّاتها، الضّوءَ، يومًا بعد يوم.
السّؤال، في خضم التّقدّم العلميّ الهائل للبشريّة، هو: إلى أين؟. أأضحى الإنسان أكثر إنسانيّة من ذي قبل؟. أتراه، كذا، يحقّق إنسانيّته؟. شريحةٌ رقيقة من البشر تستخدم التّطوّر الحاصل لخدمة الإنسان!. وبالأكثر، بما لا يقاس، تذهب العلوم مذهب الاستهلاك، بلا حدود، لغرض الاستهلاك، كنمط حياة، وتستبين أداة للسّيطرة والافتخار وتحكّم القويّ بالضّعيف والغنيّ بالفقير.
هكذا، بعامّة، يوضع الذّكاء، في مسرى العلوم، في خدمة المال، ويوخذ الأكثرون بخدر العِلم بديلًا عن الله وكلّ فضل وفضيلة، كما ليكرِّس فيهم النّزعة إلى الاكتفاء بالذّات، بالفردانيّة الخانقة، مطيحًا كلّ حاجة لديهم إلى فسحة الشّراكة، ومن ثمّ إلى مروج المحبّة، وكلَّ حسّ بالآخر وأهمّيّته وقيمته ومعاناته، في تأكيد لنظريّةٍ زيف أُشيعت، من روح الغريب، في تزوير للعلم، منذ مائة وخمسين عامًا، وفُرضت، عُرفت بالدّاروينيّة، أو نظريّة النّشوء والارتقاء، أنّ الإنسان آت من ذات مصدر الحيوان، ومصدره العدم لأنّه مرفوض، في وجدان القابضين على التّربية والتّعليم، أن يكون هناك إله!. “فيتو” على الله!.
بين علم بات غرضه أن يأتي كلّ يوم بجديد، لا لغرض إلّا للحداثة، ونزعةٍ إلى محبّة المال تقبض على كلّ ما هو حيويّ في الإنسان، وجماحٍ إلى استهلاكٍ لخلق الله وخليقته لا يقف عند حدّ، وكأنّه وباء، تسير البشريّة، بخطى ثابتة وسريعة، إلى “عدميّة” أضحت، في حسّ الإنسان، كأنّها ذروة تحقيقه لذاته، المفرَغة باطّراد من كلّ معنى، مستهزئًا مستخفًّا بكلّ قيمة من جهة الله!. “في الزّمان الأخير سيكون قوم مستهزئون، سالكين بحسب شهوات فجورهم. هؤلاء هم المعتزلون بأنفسهم، نفسانيّون لا روح لهم” (يهوذا 18 – 19)!.
متى قدّم الإنسان العِلم، بما في ذلك علم اللّاهوت، على الإيمان بمسيح الرّبّ، فاعلًا بالمحبّة، أو اعتبره كافيًا للإيمان بابن الله، قتل روح الله في نفسه وحوّل إنجيل الخلاص إلى كلام في الهواء!.
في زمن شيوع علم اللّاهوت، وسواه من المعارف والعلوم، كان الأب الياس صاحب اطّلاع ليس بقليل، على ما له علاقة بالآباء والكتاب والعقيدة والتّاريخ والقانون والطّقوس، وما سواها، في الكنيسة، إضافة إلى المعارف العامّة النّافعة. لم تكن له شهادة لاهوت لكنّه كان مشبعًا بالمعرفة اللّاهوتيّة!. وإذ كان على حدّة في الذّكاء، رصينًا، جدّيًّا، مدقّقًا، لا يشاء أن يُقبل على علم إلّا لينهل منه ما ينفعه، ويأبى أن يعبر به عبورًا طفيفًا، كان يدرك، في زمن العقلنة، أنّ ثمّة جنوحًا عارمًا إلى التّنظير، وتحويل ما ليس من العلوم التّطبيقيّة الدّقيقة، إلى مقولات فكريّة قابلة للجدل. هذا رأى فيه خطَرًا كبيرًا على الكنيسة والمسيحيّة. فالمسيحيّة حياة جديدة لا فكر دماغيّ جديد، ولو كان لها، بطبيعة الحال، فكرُها الخاصّ، لكن الفكر نابع من جدّة الرّوح والحياة فيها، ولا تقوم له قائمة من دون هذه الجدّة. بهذا المعنى، وليس بأيّ معنى فلسفيّ آخر، تكلّم الرّسول بولس على كون المؤمنين أنّ لهم فكر المسيح (1 كورنثوس 2: 16)!.
ما تتعاطاه في العلم مهمّ، طبعًا، ما إذا كان صحيحًا أم لا، دقيقًا أم لا. لكن الأهمّ، لا سيّما في علم اللّاهوت، هو كيف تتعاطاه، بأيّ روح، بأيّ فكر، بأيّ قصد؟. دونك مثلًا مقاربة الأب الياس للكتاب المقدّس. الموقف الأكاديميّ السّائد منه هو دراسيّ نقديّ تاريخيّ… هذا، بمقدار، نافع ولا بدّ منه، شرط أن يكون في إطار قصد الله والحياة الرّوحيّة التّراثيّة كما عرفتها الكنيسة وخبرتها جيلًا بعد جيل. من دون هذا الإطار، توجد دراسة الكتاب المقدّس خارج سياقها. الكتاب المقدّس، إذ ذاك، يُتعاطى نصّيًّا كسواه من النّصوص الدّهريّة. الكتاب المقدّس ليس كذلك. نحن، فيه، بإزاء كلمة الله. صحيح أنّ لهذه الكلمة بُعدَها الإنسانيّ، الّذي هو من هذا الدّهر، لكن لها، أيضًا، بُعدها الإلهيّ، الّذي هو من الدّهر الآتي. هذان لا يجوز ولا يليق الفصل في ما بينهما. ما هو إلهيّ فيها يُتعاطى بشريًّا، وما هو بشريّ يُتعاطى إلهيًّا!. هذا كان واضحًا في ذهن الأب الياس، ولا مساومة فيه. لا يمكنك أن تتعاطى الكتاب، ولو مرحليًّا، كنصّ وحسب. ليس النّصّ الكتابيّ بمعناه، فقط، عندنا، بل بحضور الله وعمله فيه أوّلًا!. هذا، إن فعلتَه، غضضتَ عن تجسّديّته الإلهيّة الآتية من تجسّد ابن الله. لا فقط مسيح الرّبّ إله وإنسان، معًا، وفي آن واحد، بل كلّ ما له علاقة، من قريب أو من بعيد، بكنيسة المسيح، جسده، هو إلهيّ وبشريّ، وإلّا سقط المرء في نسطوريّة فعليّة!. على هذا، كان الأب الياس علميًّا في ما للرّوح، في كلمة الله، كما كان روحيًّا، إلهيًّا، في ما للنّصّ، في هذه الكلمة!.
تعاطى الأب الياس، في ما تعاطى، القانون الكنسيّ، بعلم وشفافيّة، عندما دعاه المتروبوليت جورج (خضر) إلى استلام دفّة المحكمة الرّوحيّة البدائيّة، في أبرشيّة جبل لبنان. وما توقّف عن أداء مهمّته إلّا بعدما أقلعت السّفينة وتسنّى لآخر أن يأخذ عنه. كان رجلًا للكنيسة، وما التزم الحياة الرّهبانيّة لينقطع عنها (أي عن الكنيسة)، ما استبانت بحاجة إليه، خارج الدّير، بل لينقطع إلى وجه ربّه، بإزاء اهتمامات هذا الدّهر!.
كان يدعوني، من وقت لآخر، لأتحدّث إلى رهبان الدّير، في موضوعات كتابيّة، لكنّه كان يلفتني إلى اجتناب الدّخول في المتاهات الأكاديميّة النّقديّة للنّصوص الكتابيّة، لأنّها لا تساعد في البنيان وإغناء الحياة الرّوحيّة، بل أن أهتمّ بالمعاني النّافعة للنّفس، لي وللرّهبان…
كان يهمّ الأب الياس أن يَبعد، في قراءته لكلمة الله، إلى العمق، على نحو ما أشار الرّبّ يسوع إلى بطرس الرّسول، في السّفينة، أوّل ما عرفه: “ابعدْ إلى العمق وألقوا شباككم للصّيد” (لوقا 5: 4)، إلى عمق القلب، إلى عمق الكيان!. دونك عيّنة من هذا التّوغّل إلى الدّاخل. في تعليقه، مرّة، على قولة يوحنّا في إنجيله: “آمنوا بالنّور لتصيروا أبناء النّور” (12: 36)، فتّق، في ما فتّق، هذه المعاني:
– أيّ إيمان يقصد الرّبّ يسوع؟. أما يعني إيمانًا عضويًّا، كيانيًّا؟. كيانًا آخر، عالمًا آخر، ولادة جديدة؟…
– لم يأتِ يسوع لنؤمن إيمانًا عقليًّا، أيديولوجيًّا خارجيًّا… أكان هذا يستأهل نزول الله؟.
– أما جاء ليغيِّر الإنسان ويغيِّره في العمق والكيان، ليحلّ الجديد محلّ العتيق؟. بل هذه هي مهمّتنا الأولى والأساسيّة…
– لكن هذا لا يتمّ إلّا من طريق إنكار الذّات، عمليًّا وكلّيًّا ومدى الحياة. الفكرَ فينا، وكذلك الأهواء المتجذّرة… لا بدّ أن ندخل في بوتقة احتمال المشقّات والصّبر على التّضحيات… والبذل المجانيّ لكي تُحرَق جراثيم خطايانا… وإلّا نبقى كما نحن. لا نصير أبناء النّور… أبناء الله!.
– ذبيحةُ المسيح هي الباقية محور الحياة المسيحيّة… وتبنّي الصّليب، في كلّ عمل، في روحانيّة يوميّة مستمرّة، هو الّذي يغيِّرنا ويحيينا!.
– فقط عندما ننكر أنفسنا ونعمل ما يرضي الآب، يصير لنا “أبّا”، أبانا، وإلّا نموت في خطايانا…
طحين الكلام الإلهيّ كان معجونًا، لدى الأب الياس، بماء الدّموع وعَرَق الأتعاب، مخمّرًا بخمير المحبّة والأمانة للحقّ، مخبوزًا بنار الصّبر والاتّضاع والثبات إلى المنتهى ليصير خبزًا لحياة جديدة وإنسان جديد. هذا هو العلم الّذي اندفع لتلقّيه في جامعة البرّيّة!. لم يكن يعنيه أن يخوض في دراسة “أنواع القمح”، بمعنى، والمقارنة في ما بينها، أن يسطّر تطوّر زراعتها في تاريخ الحضارات… همّه كان أن يأكل لأنّه جائع إلى الله!. الكلمة الإلهيّة أُلقيت لتكون للموت والحياة!. في لقاء، هذا الأسبوع، مع سيّدنا جورج، في برمانا، سألناه: ما أهمّ شيء اكتشفتَه في حياتك؟ قال: الموت!. قلنا: لِمَ الموت؟. أجاب: لأنّه مكان اللّقاء بالآب السّماويّ!.
رجال الله هكذا يتكلّمون!. لغتهم واحدة لأنّهم إلى واحد!. الأب الياس، كان هذا لسانَ حاله، لأنّه سلك كذلك، وإلّا لا معنى للكلام ولا قيمة!. “الكلمة صار جسدًا وحلّ فينا”!. “لتكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر”!. ولتبقى الشّهادة لله في أنطاكية حيّة، نابضة بالرّوح…
لتستمرّ القصّة…
الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 21 تمّوز 2019