الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .! (12)

الأرشمندريت توما بيطار Sunday July 28, 2019 110

 الثّبات وحده يثبِّت حضور الله في النّفس!. في الخطيئة، شيمة النّفس التّردّد!. لا يثبت الإنسان على حال، ولا يقدر، طالما لا مسيح!. لا يعرف المرء ما يريد، إذ ذاك. المسيح أو لا شيء!. لذا يرتع ابن آدم، من دون آدم الجديد، في القلق!. يقيم في التّردّد. تشتهي نفسه أمرًا، فيظنّ أنّ به يبلغ المرام. فمتى حصَّله، إن حصّله، خاب ظنّه!. ليس هو!. فيطلب غيره، بجهد، بحماس، بشوق، فيخيب من جديد. وهكذا ثانية وثالثة، ولا ما ينفع. لا ما يشيع سلامًا عميقًا في القلب. وحده المسيح سلامنا (أفسس 2: 14)!.
حتّى متى طلب الإنسانُ المسيحَ، فأوّل المسير ذبذبةٌ، صعودٌ ونزولٌ، دخولٌ وخروجٌ، حرارةٌ وفتور، حماسٌ وبرودة، تعزية وخيبة… تستدعي المسيح فيأتي ويذهب، يحضر ويغيب، يفرّح وينحسر… لا طاقة تكون في النّفس لتحتفظ به طويلًا!. الله روح، فإن أنعم علينا بذاته، فكمذاق، في البداية، لا أكثر، وإلّا حَسِبَ المرء الرّوحيّات نفسانيّات، لأنّ النّفس بحاجة إلى مسار ووقت لتعتد الرّوحيّات، وإلّا تسيء قراءتها، وتسيء، من ثمّ، إلى الرّبّ الرّوح!.
لذا كان الثّبات لازمًا. ولا يثبت الإنسان، بإزاء المسيح الرّبّ، إلّا بالإيمان. أن تذوق الأمان بجانبه. أن تأمن له. أن تُسلم أمرك وذاتك إليه. أن تدرك أنّه يُقبل إليك ثمّ يُدْبر عنك، لتخرج إليه، لتبحث عنه، مصطبرًا. يغادرك إلى حين، ولكنْ، فقط، من باب التّدبير!. يكون في انتظارك. لا يحتجب إلّا بمقدار ما يجعل الشّوق فيك إليه محترًّا!. ثمّ، في اللّحظة الّتي تجدك فيها محتارًا، تضرب أخماسًا بأسداس، وقد بذلتَ كلَّ جهدك، ولم تُصِبْ نجاحًا، لأنّ البلوغ ليس منك، على بعض الرّجاء، لكن كأنّك مشرف على خيبة، وفي حال حرجة، لا تقدر أن تتقدّم أكثر، ولا تستطيع، أو لا ترغب في أن تتراجع، يأتيك، من جديد، في لحظة، من حيث لا تدري!.
وكيف تثبت؟. تسلك في وصاياه وتنتظر!. مهما قالت لك نفسك: لا نفع(!)، تصمد وتستمر، وتجاهد لتحفظ نفسك من كلّ فكر غريب، وتصرّف غريب، ومنحى غريب!. تُفرِغ نفسك من كلّ ما ليس من ربّك. وَعَدَك في السّابق ووفى بوعده. ربّك هو المبادر. يسلِّفك أوّلًا لتتعلّم أن تأمن له، ثمّ ينسحب، لتتعلّم أن تقول: “على كلمتك أُلقي شبكتي”!. هذه هي اللّحظات الحاسمة، فإن عبرت بها بثبات قلب شققتَ طريقك إلى وجهه!. مسيرك، من هناك، يضحى أيسر!. فقط تحتاج إلى وقت لترسخ فيك العادات الطّيِّبة، صبرًا واتّضاعًا وإفراغ ذات، ورضًى ورضًى ورضًى، في كلّ حال!. هكذا تثبت وتتشرّب ثناياك سلامَ مسيحك ولطفَه وودادَه، كما الجِلْدُ الزّيت، لتتملّأ من حضوره!.
ثبت الأب الياس في مسيره إلى المنتهى. هكذا سلك وهكذا علّم. فقط اثبتوا!. الثّبات ينقِّي من كلّ خَبَث!. مَن يثبت إلى المنتهى، هذا يخلص!. كان مساويًا لنفسه في كلّ حال. لا ينفعل إلّا ليعود إلى هدوئه سريعًا. مزاج الرّجل كان الاستكانة والخفر، طبعًا، لكن ركونه إلى مسيحه، في كلّ حين، كان حجر الزّاوية، في بنيانه الدّاخليّ. ولنقلها بصراحة، كان يعرف أنّ لديه استعدادًا كبيرًا لأن يكون مستكبِرًا، لكنّه كان صارمًا عنيفًا في تعامله مع نفسه. يضبطها، بعامّة، دون تسريب. يكسر ذاته حيث ينبغي ولا ينبغي. ثباته في مسيح الرّبّ بثّه وعيًا بحدّة. جعل نفسه حارسًا على نفسه لئلّا تشرد. ولم يكن، بالطّبع، سهلًا عليه، كصاحب مواهب طبيعيّة عديدة فذّة، أن يغيِّب ذاته ويكسر نفسه، لكنّه فعل ذلك لأنّه تبنّى بالكامل أنّ الحياة له هي المسيح والموت ربح، ولو مالت نفسه، هنا وثمّة، إلى تجربة فكاك القيود. أيّة قيود؟. القيود الّتي اقتبلها لفكره ونفسه وجسده التماس كلمة الله الّتي لا تُقيَّد!. كان الأب الياس يعرف من أين أتى وإلى أين هو ذاهب، نظير معلّمه!. لذلك، عندما خرج من العالم خرج للاعودة، ولَكَمْ ادّعى الجهل وهو العارف، وسلك في شبه تباله وهو الرّاجح الرّوح والعقل!.
مرّات تعرّض لما يبعث على الاضطراب، والاضطراب الشّديد، وحافظ، بنعمة الله، وإرادة صلبة، على تماسك نفسه، ما يحمل على الاعتقاد أنّه كان، في داخله، يخوض غمار صراعات عنيفة، وحتّى شرسة!. النّفسانيّون، في العادة، متى بلغوا الحدّ، وفاض حملهم، تزعزعوا أو استبانت لديهم علائم الإنهيار. في كلّ ما عرفت الأب الياس، كان، دائمًا، متماسكًا. في الشّدّة يبكي، كما يبكي في الفرح والتّأثّر والألم على المتألّمين ومعهم. ويبكي، أيضًا، في الصّلاة، متى مسّ العليّ قلبه بلَطَفه، ومتى انتصبت خطاياه موجِعةً أمام عينيه، ورغب، من الأعماق، أن يبتهل إلى ربّه، وشعر، في قرارة نفسه، كم كان مهيض الجناح!. متاعبه ومتاعب العالم، كما ساهم في حملها، استحالت في لغته، كما في لغة النّاس الإلهيّين، عادةً، دموعًا!. لذا كانت دمعته سهلة، صامتة، من الأعماق، من كثرة ما عصر نفسه وانعصر قلبه على النّاس!. وهذا ثبت فيه إلى المنتهى إذ عرف كيف يموت!. موته كان بهدوء وسلام!. طيّب الله ثراك يا بولس سعيد، لمّا قلتَ، وأنت تدنو من ساعتك الأخيرة: “لطالما كان همّي في حياتي أن أتعلّم كيف أموت”!. هذا تعلّمه الأب الياس بثباته في المسيح إلى النّهاية!. انتقل في حياته من تسليم إلى تسليم ليأتي إلى لحظة التّسليم الحاسمة الكاملة بالموت!.
في هذا كلّه، تحوّل الأب الياس من النّفسانيّات إلى الرّوحيّات. ما كان بلغ: “في يديك أستودع روحي”، لو لم يكن قد بلغ (نضج)، في النّعمة والقامة، في الجهاد والثّبات، إلى الأخير!.
مرّة، كما شهدتُ، لأنّنا كنّا معًا، أُطلقت علينا العيارات النّاريّة ولم نُصَب!. مرّة، كدنا أن نُخطَف، لا سيّما أنا!. مرّة، هاجمه، وسط الكنيسة، أثناء الخدمة، أحدُ زوّار الدّير، المقيمين فيه، ممَّن يعانون صعوبات نفسيّة، وانهال عليه ضربًا!. لم يحرّك ساكنًا، ولا ردّ، ولا جاوب!. بقي صامتًا وأحنى رأسه!. مرّة، ولم أكن معه خُطِف!. ولمّا عاد بكى وأخبر وشكر على صلاة الأحبّة!. لا شيء ترك نَدْبًا في نفسه!. كان رجلًا إلهيًّا، إلى الأمام!. “أمتدّ إلى الأمام وأنسى ما وراء”، كما كان يحلو له أن يردّد!. ما كان يخلّفه وراءه كانت تتكفّل به صلاته ودموعه في نعمة الله!.
لمّا اقتبلنا الحياة الرّهبانيّة، في دير مار يوحنّا دوما، قال لنا، وما فتئ، بعد ذلك، سنين، يردّده، في كلّ مناسبة: لا تخافوا!. فقط اثبتوا!. الله هو الفاعل فيكم!. أنتم اقتبلوا فقط!. الله هو الفاعل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرّة (فيليبي 2: 14)!. عندما عاين الشّيخ يوسف الهدوئيّ جنائن الفردوس، بنعمة الله، قال: من أين لي أن آتي إلى ههنا ولمّا أتعب في ما أُعطيت؟!. لا تخف أيّها القطيع الصّغير!. لقد سُرَّ الآب أن يعطيكم الملكوت!. بالمجّان، بالمجّان!. لأنّه لا من أتعابكم، مهما عَظُمَتْ، بل من فيض رحمة العليّ عليكم!. هو وحده الصّالح، لو كنتم تعلمون!. يكفينا أن نعرف، في عمق القلب، أنّه ليس صالح إلّاه، وأن تكون خطيئتنا، حتى وجع الحشا، أمامنا في كلّ حين!.
لا يعرف أحد متى تأتي تلك السّاعة، ولا الأب الياس، على ما أظنّ، كان يعرف!. في كلّ حال، مَن ثبت في ربّه، كلّ يوم، لا يحتاج لأن يعرف!. معرفة الأب الياس لم تأتِ من إنباء، بل من ثبات في مَن قال الكلمة ذات مرّة، وما فتئت تتردّد، مذ ذاك، بين دفّتي كتاب الله، وبالأَولى في ضلوعه!. نعلم، كما كان الأب الياس يعلم، في كلّ حين، أنّ الآتي حاضر فيه!. عَلِمَ أنّ الحبيب كان مقبلًا لأنّه خَبِرَه آتيًا إليه كلّ يوم!. لا تعود تلك اللّحظة، متى تكون، هي الهمَّ وقطبَ الاهتمام!. خذني في عينك يا سيّد!. وجهك، يا ربّ، أنا ألتمس!. مات الأب الياس قبل أن ينطلق!. لذا، بعدما انطلق واستغرق في سعيه وثبت، لم يعد ثمّة مطرح للموت فيه!. انتظر عليه ربُّه سعيَه وجهادَه وثباته، لأنّه كان، هو ملائكتُه ورسلُه، في تلك اللّحظة، في الانتظار!. ادخلوا إلى فرح ربّكم!. كنتَ أمينًا حتّى الممات فأقيمَك على الحياة!. قم إليه، يا قارئي، ولا تُبالِ، لا بما صنعتَ ولا بما لم تصنع!. قومي إليه، بخطاياكِ وفضائلكِ، يا نفسُ!. هو المرتجى!. هوذا المعلّم واقفٌ يدعوكِ…

    … وتستمرّ القصّة!.

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 28 تمّوز 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share