الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. (١٣ )

الأرشمندريت توما بيطار Sunday August 4, 2019 136

لِمَ الحياة؟. ما الّذي خَلق اللهُ الإنسان من أجله؟. طبعًا، طبعًا، أفهم أنّ الإنسان جاء من فيض محبّة الله وللمحبّة. مِن ذا كانت الحياة والحياة كانت نور النّاس والنّور يضيء في الظّلمة والظّلمة لم تدركه. هذا عن كلمة الله، الإله الكلمة، الّذي به كان كلّ شيء وبغيره لم يكن شيء ممّا كان (يوحنّا 1: 4، 5، 3). أفهم أنّ التّسبيح هوالنَّفَس المبتغى، لذا نعمل، كلّ يوم، منذ الآن، على أن نصلّي ولا نملّ. أعلم، أعلم أنّ عليّ، هنا، أن أتعب، ولا يليق أن آكل بلا تعب، كما لا يمكنني أن أصلّي، أي لا يمكنني أن أبلغ تلك الصّلة بالله، إلّا بالتّعب!. لكن التّعب كان رهنًا بالسّقوط. فماذا عمّا كان قبل السّقوط، وماذا عمّا سنصير إليه بعد الموت، حيث لا وجع، ولا حزن ولا تنهّد؟. في أيّ حال كنتُ، كإنسان، وإلى أيّ حال أأُول؟. أنا لست ملاكًا خادمًا لله، مسبِّحًا إيّاه، وحسب!. أنا أتعب الآن لأتعاطى ما يتعاطاه الملائكة (التّسبيح الشّاروبيميّ) لأعتد وأستعدّ للملكوت، لأن يكون ذهني بالكامل في الله؛ ولكنْ، وأنا أتعاطى شؤوني كبشر!. أصلّي وأنا آكل. أصلّي وأنا أشرب. أصلّي وأنا أمشي، وأنا أكتب، وأنا أفلح، وأنا أتحدّث إلى النّاس، وأنا أُعينهم، وأنا أقتبل عونهم!. أصلّي وأنا أعمل كإنسان!. الصّلاة روح، ولكن، روح ما أعمل!. بكلمة، ما هو إطار كلّ ما أقوم به وأنا أحبّ، وأنا أصلّي، وأنا أُسبِّح، وأنا أمجّد الله؟…
هذا سؤال قلّما يطرحه النّاس. أذكر، كما ذكّرتني أمّي، في ما بعد، أنّي، وأنا ولد، في الخامسة، صغير إخوتي الثّلاثة، وعلى مسافة سِتّ سنوات من آخرهم، ومن ثمّ وحيدًا في البيت، أقول كانت أمّي تعدّ الطّعام، وتضع لي، بقربها، بعض حبّات الحمّص في صحفة، أو ما يعادله، على طاولة صغيرة لأتلهّى بها. فلمّا كانت الحبّات تنفذ، كنت أقول لها: “والآن، ماذا أعمل؟”. فتجيبني: “صلِّ”!. فأهتف: “سأختنق”!. الصّلاة لا تكفيني!. أنا بحاجة لأن ألهو، لأن أتسلّى!. العمل، وكلّ شيء آخر، أُعطي لنا، كان بمثابة تعزية!. ربّك، في جنّة عدن، أخذ آدم، وهو مشمول، بالكامل، بنعمته، “ليعملها ويحفظها” (تكوين 2: 15). لم يكن هذا عملًا للتّعب والشّوك والشّقاء!. هذا كان عملًا من نوع آخر!. للّهو، للتّعزية، للفرح، للحياة… لم يكن آدم ليكتفي بالله. يحيا في الله، ولكنْ، في “أشيائه” بمعنى!. كان بحاجة إلى معين نظيره!. سؤالي هو: ما الّذي يحتاج إليه الإنسان، في قرارة نفسه، معينًا، في كلّ أمر، لا فقط في ما خصّ حوّاء، بل في ما خصّ كونه إنسانًا؟. الجواب على ذلك بقي حركة في نفسي سنين طويلة إلى أن وجدته عند الأب الياس، ذات يوم، وأنا أبلوره، هنا، للمرّة الأولى.
الجواب هو اللّعب، هو اللّهو!. لفظة “تسلية” تعني، في آن، لهو وتعزية!. لا شيء، في عمق تركيب الإنسان، يعزّيه إلّا اللّعب!. اللّعب الحلو الرّصين المُشْبِع الّذي يجعل كلّ ما يقوم به الإنسان مفرّحًا للقلب!. كان الأب الياس ينظر إلى القطط الصّغيرة، وهي تلهو في ما بينها، ويقول: “هذا ما خلق الله المخلوقات، بما فيها الإنسان، من أجله: اللّعب، اللّهو، التّسلية…”. العمل قلّما عاد، بعد السّقوط، للفرح!. العمل، بعامّة، صار علامة لعنة!. ماذا قال الله لآدم بعدما سقط؟ “ملعونة الأرض بسببك. بالتّعب تأكل منها… وشوكًا وحسكًا تنبت لك…” (تكوين 3: 17 – 18)!. الجدّيّة المفرطة في العمل، وازدياد التّعب، وزيادة ساعات العمل، وحدّ الإنسان بهاجس زيادة الإنتاج يخنق، يُعلّ النّفس، ويضرب الجسد بأمراض شتّى!. ليس، في الحقيقة، من طبيعة الإنسان!. فلا غرو إن كان النّاس يخترعون شتّى أسباب اللّهو، والجامح، أحيانًا كثيرة، ليهربوا، في الخيال، من عبء همّ العمل، الّذي يحاصرهم من كلّ جهة، أو يلجأون إلى كلّ أنواع المخدّرات لينسوا، لينفّسوا ضغط الحياة العمليّة عليهم، ليهربوا من قسوة واقعهم الخانق المفروض عليهم فرضًا من جرّاء نمط العمل لديهم!.
بكلّ أسف، اللّعب واللّهو والتّسلية بات، بعامّة، مضروبًا بالمآثم!. كأنّه شيء سالب!. لم يكن في الأساس كذلك، وليس من الله أن يكون كذلك!. اللّعنة الّتي أتت بالشّوك والحسك في العمل، أتت باللّهو، كأنّه شيء فاسد مفسِد!. محبّة المال، وهي لبُّ العمل، أتت بالجنون، في اللّهو!. قلّما عاد العمل “مسلّيًا”، لذا قلّما عاد اللّهو “سويًّا”!. هذا كردّ فعل على ذاك!. في اللّهو، لم يعد المرء يبحث عن البراءة، الّتي وحدها تُفرِح، لأنّها، في الحال الّتي هو فيها، لا ترويه!. يبحث، بالأحرى، عن الإثارة!. الزّواج الحلال، في العمق، قلّما عاد يعزّيه، يُعينه!. أضحى الإنسان بحاجة، بالأحرى، إلى الفجور!. توازن الحياة الإلهيّة في النّاس اختلّ، لذا يبحثون عن الغريب، في كلّ حين ليرتووا، ولا ما يرويهم!. العفّة، في هذا السّياق، شأن فطير!. المشتهى سيرة العاشقين!. الشّذوذ، بالأحرى، بالمعنى الواسع للكلمة، لا السّويّة!. العنف، الكره، المشادّاة، المنافسة بكلّ أشكالها، العدوانيّة، المقامرة، السُّكر، العربدة!… الغريب والاستهلاك والآليّة باتت عنوان الحداثة اليوم!.
فقط، التّعب من أجل الله يروي لأنّه يبثّ ويجدّد حياة الله فينا. يكون للفرح لأنّه يصير مرتبطًا، عضويًّا، بالحبّ، حبّ الله وحبّ القريب المنسكب فينا. في ما عدا ذلك، العمل والتّعب، ومن ثمّ اللّهو والألعاب، وجوه “ملعونة”، فاسدة مفسِدة، من وجدان قايين الهارب من وجه ربّه، حتّى الفراغ الكامل والضّياع والهلاك!.
كان الأب الياس محبًّا للّعب!. من صغر سنّه كان كذلك. كان يتحدّى أقرانه أن يتمكّنوا من الإمساك به ضمن مساحة محدّدة. كان يتحرّك بحيويّة فائقة. يتحرّك بسرعة يمينًا ويسارًا. يتقدّم إلى الأمام برشاقة، ثمّ يرتدّ إلى الوراء. لذا قلّما استطاع أحد أن يقبض عليه بيسر. كان يعرف كيف يُفلت!. وما كان غير مألوف أنّه، في كِبره، عندما كنّا في سفر، على الأوتستراد، كان يحثّني على أن أسابق السّيّارات!. كان يجد متعة في أن أتجاوز السّيّارة الّتي أمامي، ثمّ أن أتحوّل إلى اليمين، ثمّ إلى اليسار، من جديد، لأتجاوز، أيضًا وأيضًا، السّيّارات الّتي أمامي، وهكذا دواليك!. لا تفسير عندي لهذا المنحى إلّا كون الأب الياس كان، بكلّ بساطة، “يحبّ اللّعب”!. طبعًا، لم يكن غير مبال بالسّلامة والآخرين!. هو ليس كذلك أبدًا!. كانت فيه، بكلّ بساطة، نزعة طفوليّة استمرّت عزيزة لديه، وهو في سعيه إلى أن ينمو بالنّعمة والقامة الرّوحيّة!. إلى هذه النّزعة عينها، انتمى لعبه على الكلام وضحكه ومدّه، مثلًا، لرجله أمام مَن كان سائرًا بقربه كما ليوقعه، وسؤاله مَن كان مقبلًا إليه أن يساعده على النّهوض عن مقعده، بمدّ يده إليه، ثمّ شدّه في اتّجاهه كما ليوقعه، هو أيضًا!. لم تكن عند الأب الياس عِقَد بشأن سيرة اللّعب هذه!. الجدّيّة المصطنعة لم تكن تعنيه رغم كونه رصينًا في ما يعمل، لكنْ، كان واضحًا أنّ الرّبّ يسوع كان قبلة العين لديه، وما يأتيه كان، لديه، في مسار التّنقية، إلى روح الله!.
التمس الأب الياس، وهو يسير إلى شيخوخة إلهيّة، أن ينمو في طفوليّة قلبيّة بشريّة حقّ، وحتّى سلوكيّة، أحيانًا، إنفاذًا لقولة ربّه: “إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السّموات”!. هذا لم يفهمه الأكثرون، وكان الأب الياس، في قرارة نفسه، يَعرف ذلك ويُسرّ به، لأنّه أراد، في قرباه، من كلّ النّاس، أن يكون غريبًا عنهم، حتّى يبقى في العيون عاديًّا وغير مفهوم!. هذا أعفاه من مديح العديدين الّذين كانوا يجدونه “مسلّيًا”!. الرّوح الكامن وراء مواقفه وسلوكه قلّما نفذ إليه إلّا القلّة الّتي أدركت، بعد وفاته، أنّها كانت بإزاء قامة روحيّة فذّة!.
بلى، كانت الغربة عنوان الأب الياس بامتياز. عندما حضر فيلم “أماديوس”، الّذي يروي فصولًا من حياة موزار، بكى، في العتمة، بكاءً كثيرًا، لأنّه كان يرى في موزار صورة عن نفسه. أحبّ موزار، الّذي اعتبره أندريه مالرو، الموسيقار “الوحيد” في تاريخ الموسيقى، ولو كان بيتهوفن هو الأعظم، أقول أحبّ موزار لأنّه كان، في موسيقاه، بكلّ بساطة، “يلعب”!. يتنفّس الموسيقى تنفّسًا!. كانت الموسيقى، لديه، مدًى للّعب، للرّاحة، للفرح، لذا بلغ الذّروة في أدائه!. كان موزار يقول عن نفسه إنّه “مبتذل” (Vulgar) في سلوكه، لكن موسيقاه ليست كذلك أبدًا!. كذلك كان الأب الياس؛ يعرف أنّه خاطئ وأوّل الخطأة، لكنّه يعرف أيضًا أنّ قيثارة روحه وما كان يصدر عنها لم يكن مبتذلًا البتّة!.
هكذا تعلّم الأب الياس، الّذي طالما اجتهد، في “لعبه”، ألّا يمسكه أحد، بيسر، كيف يُسلم نفسه بالكامل، كطفل، لربّه: “في يديك أستودع روحي”…

لتستمرّ القصّة!…

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 4 آب 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share