لا سلطة في الكنيسة!. في الكنيسة خدمة!. وثمّة خدمة في الكنيسة لأنّ الكنيسة محبّة!. تأتي الكنيسة من محبّة وتقيم في المحبّة وتستمرّ بالمحبّة وتشهد للمحبّة!. خارج المحبّة، لا كنيسة!. همّ الكنيسة الأوحد أن يتكمّل المؤمنون في المحبّة!. “ليكونوا واحدًا كما أنّنا نحن واحد. أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكمَّلين إلى واحد” (يوحنّا 17: 22 – 23) (من الصّلاة الكهنوتيّة للرّبّ يسوع أي صلاته إلى الآب السّماويّ في شأن الكنيسة)!. على هذا، لا سلطة تتسيّد باسم الخدمة، لأنّ الخدمة، إذ ذاك، تستحيل خدمة صوريّة، كلاميّة، شكليّة، ممأسَسة!. السّلطة، باسم الخدمة، إذ ذاك، تقتل الخدمة الحقّ، أي المحبّة، إذ تهمّشها كفعل، وتكتفي منها بالكلام فتفرغها من مضمونها!. من ذا القول: “سيخرجونكم من المجامع (عمليًّا من الكنائس). تأتي ساعة فيها يظنّ كلّ مَن يقتلكم أنّه يقدّم خدمة لله، وسيفعلون هذا بكم لأنّهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني”(يوحنّا 16: 2 – 3)!.
في الكنيسة، لا خدمة، ولا محبّة في الحقّ، تأتيان من سلطة!. السّلطة لا تسبق الخدمة ولا يمكنها أن تكون قائمة في ذاتها، ولو باسم الخدمة، أو المحبّة!. هذه، بالضّبط، هي السّلطة الدّهريّة الّتي حذّر منها السّيّد!. “رؤساء الأمم يسودونهم وعظماؤهم يتسلّطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم، بل مَن أراد أن يصير فيكم عظيمًا، يكون لكم خادمًا” (مرقص 10: 42 – 43)!. الأوّليّة تأتي من واقع الخدمة، لا الخدمة من موقع الأوّليّة، أي موقع السّلطة!. الأوّل، في الكنيسة، يختارونه لأنّه قدوة في الخدمة، في المحبّة!. أمّا السّلطة الّتي تحكم، ظاهريًّا، باسم الخدمة، فمستقَرٌ لا للمسيح بل لضدّ المسيح، أي لمَن له شكل المسيح، لكنّه من روح مضاد للمسيح!. مثل هذه السّلطة محكومة، بحكم موقعها، بأن تقتل المسيح لا محالة!. “مَن ليس معي فهو عليّ”!. وإن تبوّأها رجال محبّون لله واستمرّوا كذلك قضوا شهداء، بحكم موقعهم!. السّلطة، والحال هذه، كينونة مناقِضة لله، مقاوِمة لروح الآب ومسيحه، وكلّ مَن تبوّأها إمّا أن يصير من روحها المضادة أو يخرج منها أو يَستشهد فيها، لا فرق ماذا كان عليه في سابق عهده!.
السّلطة، والحال هذه، غير قابلة، في عمقها، لا للتّغيير ولا للتّعديل، لأنّ بذرتها رديئة، وهي من استبداد إرث الفتور والتّيهان والانحطاط في تاريخ الكنيسة!. نشأت وتبلورت وترسّخت، روحيًّا، لا لتنهض بالكنيسة، بل لتكون بديلًا ظواهريًّا عن الكنيسة!. من هنا خدعة إبليس فيها!. هذا هو المأزق الرّئيس الّذي وقعت الكنيسة فيه، عبر العصور، وإلى اليوم!. وهكذا صارت العودة، بروح الضّلال، عبر التّاريخ، في الكنيسة، إلى الحال الّتي سادت في زمن رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيّين، وأدّت إلى صلب المسيح!. “إلى خاصّته جاء (ويجيء)، وخاصّته لم تقبله، وأمّا كلّ الّذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا (لاحظوا سلطانًا!) أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه” (يوحنّا 1: 11 – 12)!.
الأب الياس صار ابنًا لله، رجلًا لله، لأنّه كان مؤمنًا باسمه، أي إنّه أفرغ نفسه، نظير معلّمه، وأخذ صورة خادم عبد، وانضمّ إلى مَن صاروا “منظرًا للعالم”، وتبنّى موقف مَن قالوا: “نحن جهّال من أجل المسيح”، وفاخروا بقولهم: “نحن ضعفاء”، وجاهروا بقولهم: “أمّا نحن فبلا كرامة”، على قولة الرّسول بولس إلى أهل كورنثوس (1 كورنثوس 4: 9، 10)!. هذا سليل من وُضع “لعلامة تُقاوَم”(لوقا2: 24)!.
خرج الأب الياس من سيادة السّلطة في العالم، حين كان موظّفًا مرموقًا، إلى الفقر الإراديّ والخدمة والمحبّة في الحقّ!. لم يكن “رئيسًا” للدّير، ولو أسموه كذلك!. لم يفرض نفسه على أحد، لأنّه كان في موقع السّلطة!. في الواقع، لم يكن في ديره رئيسًا على أحد!. ديره كان جملة من الحالات الفريدة!. كلّ، بعامّة، بإزاء ضميره!. كان الأب الياس يطيع الجميع للبنيان، وقلّما يطيعونه كرئيس عليهم ولو وقّروه!. وعندما كان ثمّة مَن يلحّ عليه بأن يفرض نفسه كرئيس، كان يحاول، وهو غير مقتنع بجدوى المحاولة. وإذ يصطدم بكون كلّ من الرّهبان ضنينًا بحرّيّته وبما له، كان يخرج عن طوره، بالصّوت الملآن، ويرتدّ عن محاولته لفترة طويلة!. لا قناعته، في رهبانيّته، دفعته إلى ممارسة السّلطة، ولا وجدان رهبان الدّير شجّعه على ذلك!. ولست أكشف سرًّا، إن قلت إنّ الأب الياس كان يخرج، من الدّير، مرّة في الشّهر، على الأقل، في جولة يقتبل فيها الاعترافات، لا فقط لأنّه كان مقتنعًا بأهمّيّة ما يقوم به، بل لأنّه، أيضًا، كان يؤثر ترك الإخوة لحرّيّتهم، ولأنّه كان واثقًا أنّهم قادرون على أن يتدبّروا!.
البديل عن السّلطة، بالنّسبة للأب الياس، كان الضّمير الحيّ!. أليست هذه هي الكنيسة؟. يترك الجميع لضميرهم!. اهتمّ بالأحرى بالمثال، بإزكاء الضّمير!. يحبّ الجميع ويخدم الجميع ويبذل نفسه من أجل الجميع، لكنّه لا يقتحم أحدًا، ولا يفرض نفسه على أحد، لا من أهل الدّير، ولا من الأبناء الرّوحيّين والبنات الرّوحيّات!. كان يحمل الجميع، في المقابل، في دموعه وصلاته!. هذا جعل معاينته الدّاخليّة للآخرين تشفّ!. يتابع الجميع عن كثب، في روحهم!. يتركهم ينمون وينضجون من منطلق وعيهم الشّخصيّ والسّرعة الخاصّة الّتي بها يتحرّكون!. بعضهم ينجح ويصير رجلًا، وبعضهم يفشل ويعود إلى العالم!. لا مطرح لثالث بين هذين القطبين!. في كلّ حال، ليست الطّاعة خضوعًا خارجيًّا، من منطلق القواعد والأصول!. هذا لا يبني!. شكل الطّاعة، ما لم يقترن بوعي عميق أنّ المرء يقدّم مشيئته الخاصّة ذبيحة لله، ليتملّأ من رضى الله ومشيئته وروحه، فإنّه (أي شكل الطّاعة) يكون للخنوع والتّحمّل والتّحطيم، ولا يفضي إلى رجولة في القلب بل إلى اتّكاليّة مقيتة وتشويه في الإرادة والشّخصيّة!. وعوض أبناء الله، بالمعنى العميق للكلمة، تحلّ صورة الأبناء لهذا الدّير أو ذاك، لهذا الرّئيس أو ذاك… ولو باسم الله!. وليس أضنى، والحال هذه، من أن نروِّض الآخرين على الدّوران حول ذواتنا، عوض مسيح الرّبّ!. هذا هو حمل الله الرّافع خطيئة العالم، لا أنا!.
كان الأب الياس رفيقًا بكلّ مَن لاذ به، ضنينًا به، مبذولًا لأجله!. هكذا عرفته في علاقته بالنّاس، وهكذا خبرتُه في علاقتي به!. كلّ واحد لديه أمانة من فوق!. يتابعه بثبات، بإصرار، ولكن برفق كبير!. لا يشاء أن يثقِّل على ضميره في شيء!. يصطبر، ينتظر أوان الإثمار!. يراه في روحه!. يدعمه بصلاته ودموعه!. يسأل عنه!. يفتقده!. يراسله حيث يلزم!. عندما كنت أتابع دراستي اللّاهوتيّة، كان الأب الياس، كلّ أسبوع، يوافيني برسالة قصيرة، ببطاقة عليها بضع كلمات، بصورة، بخبر!. كلماته، في كلّ حال، كانت قليلة، لا لأنّه لم يكن مهتمًّا، بل لأنّ نَفَسَه كان قصيرًا!. أقوال مثل: أرجو أن تكون بخير… الله معك… أصلّي لك… تشدّد… اثبت… لا تنظر إلى الوراء… أفكّر فيك… الإخوة يسلِّمون… “نحن ماضون في رسم الكنيسة بالإيقونات (أوائل السّبعينات من القرن العشرين)… كانت تعزّيني وتُشعرني بأنّ الأب الياس معي!. لم يطلب منّي شيئًا، ولو علّمني كلّ شيء!. كان يتركني لأكبر، على سجيّتي، في النّعمة والقامة وحسّ الضّمير!.
الأب الياس، عرفتُه يعمل في صنع الرِّجال لله!. صورة يوحنّا المعمدان بإزاء الرّبّ يسوع، كانت تكفيه مثالًا!. أغدق عليّ كلّ شيء، من روحه، من فكره، من عونه، ولم يطالبني بشيء!. كانت تكفيه تعزية أن يراني ألتصق بمسيح الرّبّ، وأن أزداد حماسة لحقّ الإنجيل، يومًا بعد يوم!. هاءنذا والأولاد الّذين أعطانيهم الله!. كنت وأنا أتقدّم في مراقي الكلمة أشعر بظلّه الخفيف عليّ، أنّي أستطيع أن أمضي قدمًا من دونه!. لا متطلّبات ولا واجبات حياله!. مع ذلك، روحه كانت فيّ!. حضوره في نسيجي!. فكره في وجداني!. مثاله أمامي!. والآن أعي في قلبي أنّ هذا كان يكفيه بالكامل عزاء!. لم يعمل على قولبتي لنفسه، بل عمل على إعدادي لمسيحي وإنجيله!. لا أعرف بكلّ ما كان يعرف في شأني من فوق!. أعرف أنّه علّمني سرّ الكنيسة أن أرعى النّاس في الحرّيّة!. “إرعَ خرافي”!. وما الرّعاية في الحرّيّة إلّا أن تكون واثقًا أنّ ثمّة راعيًا واحدًا يرعى الجميع، تفصيلًا، وأنّ ثمّة معلّمًا واحدًا يعلّم الجميع، وأنّ ثمّة سيِّدًا واحدًا يبذل نفسه من أجل الجميع قدوةً!. أمّا نحن، أنا وأنت، فلا نعدو كوننا صوتًا صارخًا في البرّيّة: أعدّوا طريق الرّبّ…
لتستمرّ القصّة…
الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 11 آب 2019