رأي: في العفّة

الأرشمندريت إلياس مرقص Tuesday July 21, 2020 234

الأرشمندريت إلياس مرقص

“ويلي فقد صار جسدي لحمًا”

(من كتاب التريودي)

إنّ انحسار العفّة واقع. وواقع يتزايد… وكأنّها أصبحت في ذهن الناس لا داعٍ لها ولا معنى، مع أنّ لها معنى كيانيًّا.

“ويترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران جسدًا واحدًا” (تك ٢: ٢٤). إنّ آدم وحوّاء كانا واحدًا. ولكنّهما بالخطيئة انقسما وانفصلا. لفظة جنس بالفرنسيّة sexe تعني في أصلها اللاتينيّ الانقسام والانفصال (sexe-seccare-séparer). فالتوق إلى التزاوج هو في الأساس التوق إلى وحدة الطبيعة الإنسانيّة وكمالها. إنّه توق كيانيّ. أمّا عدم العفّة فانحراف كيانيّ… ولذا له وجه الخطيئة ولا يقود إلى الاستقرار والسلام.

في صلاة التوبة للقدّيس أفرام السريانيّ نلتمس روح العفّة (“وأنعم عليَّ بروح العفّة”). فالعفّة ليست فقط عدم ممارسة العلاقات الجنسيّة. ليست وضعًا خارجيًا بل حالة[1]. وهي في تلك الصلاة تقابل روح البطالة والفضول (“أعتقني من روح البطالة والفضول”)، أي روح التشتّت والتجزّؤ. وذلك ضدّ التوق إلى التوحّد، التوق إلى واحد، وبالنتيجة إلى الله، وتاليًا إلى الاستقرار الكيانيّ.

والعفّة فضيلة عامّة أساسيّة: إنّها اسم لكلّ الفضائل مرادف للّاهوى. فالزهد عفّة والفقر عفّة والطاعة عفّة… والعفيف حقًّا (سواء في الزواج أو خارج الزواج) يكون عفيف النظر وعفيف اللسان واليد والجسد… يكون عفيف الفكر والقلب، طاهرًا كلّه، حرًّا من الأهواء. إنّ العفّة في الحقيقة لا تقوم على مستوى الجسد بل على مستوى القلب، وتحرّرهُ من أسر الأهواء. إنّها تدلّ على جودة النفس. وبكلمة واحدة تعبّر عن سرّ الخلاص.

إنّ مسيرة تاريخ الخلاص مسيرة عفّة. فالله خلق العالم كفرحٍ بتوليّ سرّيّ: “أين كنتَ حين أسّستُ الأرض… إذ كانت كواكب الصبح ترنّم جميعًا وكلّ بني الله يهتفون” (أيّوب ٣٨: ٤ – ٨). إنّه فرح بتوليّة الخليقة. ثمّ هناك بتوليّة آدم وحوّاء قبل السقوط… ثمّ بتوليّة العذراء مريم… وبتوليّة التجسّد، السرّ البتوليّ: الأم العذراء والربّ الأعذر الخالي من الخطيئة.

وبتوليّة القيامة: ولادة الخليقة الجديدة، ملكوت الله حيث أبناء القيامة لا يزوّجون ولا يتزوّجون.

“إنّ كلّ الخليقة تئّن وتتمخّض… لكي تعتق من عبوديّة الفساد إلى حرّيّة مجد أولاد الله” (رو ٨: ٢١ – ٢٢)، فيسكن الذئب مع الحمل… وترعى البقرة والدبّ معًا… ويلعب المرضع على حجر الأفعى…” (أش ١١: ٦ – ٨). إنّه التآلف الكونيّ… والصداقة الكونيّة… “الشمس أختي والقمر أخي… والهواء والماء والنار وو…”

لا تسلّط ولا تملّك ولا استئثار ولا استهلاك… بل عفّة…

هكذا نتبيّن أنّ للعفّة بعدًا أخرويًّا: في سفر الرؤيا كلّ المختارين مدعوون عذارى (رؤ ١٤: ٤). ووليمة الملكوت تُدعى وليمة العرس (رؤ ١٩: ٧ – ٩). فالحياة الأبديّة ذاتها مثل سرّ بتوليّ، جذرها أن نتبع المسيح الختن ونكون معه وبقربه دائمًا…

الكنيسة موصوفة كعروس المسيح و”كامرأة الخروف” (رؤ ٢١: ٩) في عفّة أبديّة “أيّها الرجال أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح أيضًا الكنيسة… لكي يقدّسها… ويحضّرها لنفسه… لا دنس فيها ولا غضن… (أف ٥: ٢٥ – ٢٧) “لأنّي أحببتك حبًّا أبديًّا يا عذراء إسرائيل” (إرَ ٦١: ٣ – ٤). “كسرور العروس بالعروس يسرّ بكِ إلهكِ” (أش ٦٢: ٥).

في الكتاب المقدّس يبدو الخصب أحيانًا كأنّه مقرون في قصد الله بنوع من العفّة. إذا جاز القول. ففيما عدا العذراء مريم التي ولدت المخلّص والربّ يسوع الذي خلّص الكون، هناك أليصابات العاقر التي ولدت يوحنّا السابق (لو ١: ٧..) وسارة التي ولدت إسحق ابن الموعد (تك ١١: ٣٠ و٢١: ٣) وراحيل التي ولدت يوسف (تك ٢٩: ٣١) وحنّة التي ولدت صموئيل (١ صم ١: ٢ و٢١): “إنّ أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج” (غل ٤: ٢٧ وأش ٥٤: ١). ” الذي يُسكن العاقر في منزل ويجعلها أمًّا مسرورة بأولاد كثيرين” (مز ١١٢: ٩). على هذا المنوال البتوليّة الرهبانيّة تؤول إلى أبناء روحيّين كثيرين…

ولكن العفّة – ككلّ شيء صالح – نعمة من الربّ: “إن لم يبنِ الربّ البيت باطلًا يتعب البناؤون” (مز ١٢٦: ١). إنّ بولس الرسول لدى تكلّمه على بتوليّته يقول: “الربّ رحمني أن أكون أمينًا” (١ كو ٧: ٢٥ و٧: ٧).

إلّا أنّها تتطلّب ولا شكّ استعدادًا روحيًّا:

العزم أوّلًا: “إنّي خطبتكم لرجل واحد لأقدّم عذراء عفيفة للمسيح” (٢ كو ١١: ٢).

ثمّ وعي لضرورة افتداء الزمن: “فأقول هذا أيّها الأخوة الوقت منذ الآن مقصّر لكي يكون الذين لهم نساء كأنّ ليس لهم” (١ كو ٧: ٢٩) (هذا للمدعوّين فقط).

ثم جهاد نسكي لا بدّ منه (الابتعاد عن مناسبات السقوط، ضبط الحواس، قمع الشهوات بالصوم والسجدات، جمع العقل…). (انظر بستان الرهبان وأصول الحياة الروحيّة، باب العفّة).

وأخيرًا وبصورة خاصّة الإقرار بضعفنا باتّضاع كبير واللجوء إلى الربّ يسوع بحرارة ويقين. هذا الجهاد جهاد مرير أحيانًا ولكنّه حلو… وبه يتمجّد الله.

“أم لستم تعلمون أنّ جسدكم هو هيكل الروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله”؟ (١ كو٦: ١٩).

المرجع : مجلّة النور، العدد السادس، ١٩٩٨.

  [1]  يقول القدّيس باسيليوس الكبير: “إنّي لا أعرف امرأةً.. ولكنّي لست عفيفًا..”

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share