في التخطّي

mjoa Saturday July 25, 2020 223

في حياتنا مع اللَّه موقف أساس، إذا لم يتوفّر عَدمتْ ثباتها وتزعزعت، هو – إذا جاز اختصاره بكلمة واحدة – التخطّي، التخطّي شبه الدائم كما يتّضح من الطقوس والكتاب المقدّس والتصرّف المسيحيّ والجهاد النسكيّ والكيان الإلهيّ، إذ إنّها كلّها تدعونا إلى الانتقال إلى صعيد آخر غير الصعيد العاديّ اليوميّ، إلى عالم آخر.
عندما لا نتخطّى أنفسنا ونبقى على الصعيد الأرضيّ، يسود صلاتنا غالبًا وسريعًا الملل والجفاء وأحيانًا اليأس. ولذلك تكون الصلاة صعبة ومتعبة عوض أن تكون مصدر حلاوة وراحة وفرح وسلام.
في أيّام الكنيسة الأولى كانت الأمور جديدة وطريّة وبنعمة القيامة الجديدة والخلاص الجديد والإيمان الجديد، وكان المسيحيّون يصلّون بابتهاج وحياة وقوّة. وبهذه النعمة كان الشهداء يتحمّلون آلامهم بسهولة، ولا يخورون تحتها، وربّما لا يشعرون بها.
أمّا مجال التخطّي اليوم بالنسبة إلينا فهو، إذا انتبهنا، يبدو جليًّا أوّلاً في الطقوس، فمثلاً في عيد الفصح المجيد نردّد أنّ المسيح قد أجازنا من الموت إلى الحياة، ومن الأرض إلى السماء. وأنّنا نشرب مشروبًا جديدًا وأنّ كلّ شيء ربيعيّ جديد…
والقدّاس الإلهيّ يدعونا إلى أن نضع قلوبنا فوق وأن نرتّل نشيد الشروبيم الذين نماثلهم إلى غير ذلك، ما يحثّنا على العيش منذ الآن مع اللَّه وفي ملكوته.
هذا والكثير من أناشيد كتاب المعزّي والتريودي والبنديكستاري تدعونا إلى تبنّي حركة هذا التيّار والانضمام إليه.
ولنلاحظ أنّ أقصر الصلوات في طقوسنا مجال لتخطّي أنفسنا إلى فوق. ولذلك تكرّرها الكنيسة كثيرًا ونحن نحسب هذا التكرار مبالغًا فيه وغير ضروريّ. فمثلاً تكرار صلاة الذكصا، أي «المجد للآب والابن والروح القدس»، هو لبقائنا مشدودين إلى العلى، إلى الثالوث المحيي. وكذلك صلاة «أبانا الذي في السماوات ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض»، وكذلك «هلمّوا نسجد»، كأنّ اللَّه أمامنا، و«يا ربّ ارحم» التي بها نطهّر أعماقنا، لنستطيع أن نحسّ بحضور اللَّه…
وهذا كلّه يتطلّب انتباهًا وجهدًا داخليًّا لنتجاوز أنفسنا وننتقل بذهننا إلى العالم الآخر.
والكتاب المقدّس لا يخلو من تذكيرنا بأنّنا نعيش في الخليقة الجديدة (غلاطية ٦: ١٥ و٢كورنثوس ٥: ١٧)، وفي «الإنسان الجديد» (أفسس ٤: ٢٢- ٢٤)، وأنّ المسيح «أجلسنا معه في السماويّات» (أفسس ٦: ٢)، وأن «نتغرّب عن الجسد ونستوطن عند الربّ» (٢كورنثوس ٥: ٨)، وأنّ نتخطّى أوضاعنا السلبيّة بأوضاع إيجابيّة: «كمضلّين ونحن صادقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمؤدّبين ونحن غير مقتولين، كحزانى ونحن دائمًا فرحون، كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأنّ لا شيء لنا ونحن نملك كلّ شيء» (٢كورنثوس ٦: ٨- ١٠).
بل نرى المسيح نفسه يحثّنا على الانتقال من الصعيد الأرضيّ إلى الصعيد السماويّ: «اعملوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي لحياة أبديّة»، و«أقول لكم إنّ موسى لم يعطكم الخبز من السماء (المنّ)، لكن أبي يعطيكم الخبز الحقيقيّ من السماء» (يوحنّا ٦: ٢٧- ٣٢).
وفي تصرّفنا كمسيحيّين، كم ينبغي لنا أن نتخطّى أنانا وراحتنا وكبرياءنا في قبول الآخرين كما هم، وعدم إدانتهم واحتمالهم بصبر وشفقة ومحبّة. وليست المحبّة سوى نسيان أنفسنا في سبيل الآخرين، أي الخروج من أنفسنا وتخطّيها. يجب علينا نحن الأقوياء «أن نحتمل أضعاف الضعفاء» (رومية ١: ١٥).
هذا ومن البدِهيّ حمل صليبنا في هذا المضمار(١). علمًا بأنّ التجارب ذاتها هي مناسبة للتغلّب عليها والتحرّر منها، وندخل سرّ الخلاص بتخطّيها. وقد قال القدّيس أنطونيوس الكبير إذ لا بدّ منها للخلاص.
وجهادنا النسكيّ يستوجب التخطّي الدائم: «أنسى ما وراء وأسعى إلى الأمام» والتجدّد المستمرّ وإلاّ فننتن. مثلاً، في تطبيق التطويبات، وهي مثلنا الأعلى: طوبى لنتجاوز أنفسنا في المسكنة بالروح والوداعة وصنع السلام والرحمة ونقاوة القلب… علمًا بأنّ كلّ «وصول» إلى فضيلة ما يعتبر عبادة أصنام حسب الآباء، فالفضيلة ليست غاية بذاتها، فالغاية هي امتداد دائم من دون توقّف نحو اللَّه، فلا بدّ من التخطّي.
بلا تخطّ لا حياة بل توقّف وموت. ومن هنا أهمّيّة القيامة القصوى عندنا – عقيدتنا الأساسيّة. فبلا قيامة لا إيمان صحيح ولا حياة. الإنسان مدعو إلى الحياة، والتخطّي أساس الحياة.
وهذا التخطّي المستمرّ وعلى كلّ الصعد بدهيّ مسيحيًّا، إذا تأمّلنا صبر اللَّه، وتخطّيه الكلّيّ والدائم تخطّيًا لا يوصف، تخطّيًا كيانيًّا كما هو في الثالوث القدّوس وإلاّ اللَّه لا يكون اللَّه.
نحن مخلوقون على صورة اللَّه، أي إنّنا أكبر من أنفسنا وتاليًا يجب أن نمتدّ فوق أنفسنا، أن نتجاوز أنفسنا ونسترجع أصالتنا فنعود إلى كياننا الحقيقيّ، وتاليًا إلى ميناء السلام والغبطة، إلى الملكوت، الذي هو في داخلنا.
هذا وبالنتيجة، فإنّ الإيمان نفسه «أساس حياتنا» هو تخطّ وانتقال.
تبقى كلمة واحدة: لا نفكّرنّ كثيرًا في التخطّي أثناء الصلاة فنغرق ونعطّل صلاتنا، بل فلنصلّ ببساطة وإيمان… من أعماق ضعفنا… نعم، فلنتخطّ تخطّينا…
«يا ربّ، طوبى للرجل المتوكّل عليك»…
ولكن من الضروريّ التنويه بأنّ هناك وجهًا آخر لصلواتنا إلى اللَّه، وجهًا مهمًّا جدًّا بل أساسيًّا هو عكس التخطّي إلى فوق، هو استنزال ما هو فوق إلينا: «هلمّ واسكن فينا»، «ملكوت اللَّه في داخلكم»، «سلامي أعطيكم»، «أنا فيكم وأنتم فيّ»، «لأنّ اللَّه معنا»، «بركة اللَّه ورحمته معكم جميعًا»، «خذوا كلوا، اشربوا منه كلّكم»، «الربّ يسكب نعمته علينا»، إلخ…
لأنّ غاية التخطّي إنّما هي، بالنتيجة، أن نستنزل ملكوت اللَّه ونعمته وبركته ورحمته إلى قلوبنا.
آمين.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share