الأب إلياس مرقص
هل أتجاسر وأقول إنّ مشكلتنا الأساسيّة جميعًا هي الصلاة؟ أن نعرف كيف نصلّي، أن نعرف أن نصلّي، يبدو لي أنّ تلك هي المشكلة. الذين لم يخبروا الصلاة ، أو لم يسبروا فحواها، من الطبيعيّ أن يغيب عنهم الكثير من أبعادها ولا يقدّروا مدى ارتباطها بوضوح إيماننا، وسلامنا الداخليّ، وسلامة علاقتنا بالآخرين، وبالنتيجة بإدراكنا معنى وجودنا لأنّ في الصلاة غنى يشمل كلّ آفاق الحياة.
هذا الغنى يظهر جليًّا في صلاة كنيستنا الأرثوذكسيّة، التي صاغها آباؤنا بنعمة الروح ثمرةً لحياة كرّسوها لاقتلاع الفساد من نفوسهم واقتبال حياة الله، تلك الحياة التي خُلقنا من أجلها. ولكنّه غنى مهمَل إلى حدّ كبير مع أنّ أصالة هويّتنا الأرثوذكسيّة – أي كياننا العميق – وتاليًا رسالتنا في العالم، متوقّفة على إدراكنا غنى صلاتنا وعيشنا إيّاه.
فمحاولةً لإيضاح ما يكاد يتعذّر إيضاحه – لأنّه موضوع خبرة وموضوع نعمة – لنتناول مفهوم البركة في طقس كنيستنا، إذ إنّ كلمة واحدة من كلمات صلواتنا تعني الكثير أحيانًا إذا ما نفذنا إلى خلفيّتها وأساسها الكتابيّ والقصد من إيرادها وترتيبها وتكرارها في مسيرة الخدم الكنسيّة.
نلاحظ أوّلًا أنّ كلّ طقوسنا تبدأ في ظلّ البركة: “تبارك الله إلهنا كلّ حين الآن وكلّ أوان وإلى دهر الداهرين”. ليس فقط كلّ صلاة وكلّ خدمة، بل القدّاس الإلهيّ واليوم الليتورجيّ والأسبوع الليتورجيّ والسنة الليتورجيّة[1]. هذا إلى جانب تكرار البركة كثيرًا خلال الخدم ذاتها وخلال القدّاس الإلهيّ (نحو خمسين مرّة). وعدا امتداد استعمال البركة خارج الطقوس[2].
فماذا تعني هذه البركة وماذا تحوي؟ لكي نتبيّن ذلك لا بدّ من الرجوع إلى الكتاب المقدّس لنقف على معاني البركة فيه. يلفت نظرنا أوّلًا أنّ يسوع لمّا ودّع تلاميذه “فتح يديه وباركهم” (لو ٢٤ : ٥). ويتابع الإنجيليّ ويقول: “وفيما هو يباركهم انفرد عنهم”. وكأنّه ترك لهم هذه البركة كعطيّة أخيرة وكختم لرسالته. إنّها المشهد الأخير الذي إنطبع وبقي قائمًا في ذهنهم. نحن نعيش في ظلّ بركة يسوع لنا. ما تزال بركة الربّ يسوع تظلّلنا على الدوام. بركة الكاهن للشعب بالكأس المقدّسة في نهاية القدّاس الإلهيّ قائلًا: “تبارك الله إلهنا كلّ حين..” ترمز كما نعلم إلى بركة المسيح الأخيرة هذه عند صعوده إلى السماء.
أمّا الرسل فعند ارتفاع يسوع عنهم “رجعوا إلى أورشليم وهم في فرح عظيم وكانوا كلّ حين في الهيكل يسبّحون الله ويباركونه” (لو ٢٤ : ٥٢ – ٥٣). فنرى أنّ الربّ يبارك تلاميذه وأنّهم بدورهم يباركونه. ونرى قبل هذا في المزامير: “خلّص شعبك وبارك ميراثك” (مز ٢٧ : ٩) و”باركي يا نفسي الربّ” (مز ١٠٢ : ١). ذلك بأنّ البركة ذات اتّجاهين: بركة الله لنا ومباركتنا لله. وهما اتّجاهان يرتبطان ويتلاقيان: “بارك هذه المائدة… فإنّك المبارك” وفي القدّاس الإلهيّ: “ليكن اسم الربّ مباركًا” ثمّ “بركة الربّ تحلّ عليكم”. فعندما نبارك غنى الله نعني ونعترف بأنّه هو مصدر البركة، مصدر كلّ بركة. إنّه “المبارك” (مز ١٤ : ٦١). فكما نقول إنّه قدّوس ولأنّه قدّوس فهو يقدّسنا، كذلك المبارَك يباركنا. في صلاة نصف الليل نقول: “في الليالي إرفعوا أيديكم إلى الأقداس وباركوا الربّ، ليباركك من صهيون الربّ صانع السماء والأرض” (مز ١٣٣ : ٢ – ٣). فالبركة تفتح لنا باب السماء، باب اتّصالنا بالله وانحدار نعمته علينا.
ثمّ في الكتاب أهمّيّة قصوى لهذه البركة: هناك أوّلًا البركة مقابل اللعنة، فإمّا البركة أو اللعنة: “قد جعلت بين أيديكم الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت وذرّيّتك (تك ٣٠ : ١٩). فإمّا أن نكون أبناء البركة أو نكون أبناء اللعنة. “وأحبَّ اللعنة فتأتيه ولم يُسَرّ بالبركة فتقصى عنه، ولبس اللعنة مثل الثوب فدخلت في أمعائه مثل الماء وفي عظامه مثل الزيت” (مز ١٠٨ : ١٧و١٨). إنّه اختيار أساس يقرّر حياتنا ومصيرها: “تعالوا يا مباركي أبي..” (متى ٢٥ : ٣٤).
ويستنتج أيضًا الأهمّيّة الحياتيّة لهذه البركة من موقف عيسو أمام أبيه إسحق عندما استلب يعقوب أخوه بركته: “باركني أنا أيضًا يا أبي. أما أبقيت لي بركة؟ أبركة واحدة لك يا أبتِ. باركني أنا أيضًا يا أبتِ. ورفع عيسو صوته وبكى..” (تك ٢٧ : ٣٤ – ٣٨). لأنّنا “لهذا دُعينا لكي نرث البركة” (١ بط ٣ : ٩).
أمّا ما تحمله إلينا البركة فنتبيّن شيئًا منه في المزمور ١٠٢ الذي نتلوه في صلاة السحر: “باركي يا نفسي الربّ ولا تنسي جميع حسناته: الذي يغفر جميع ذنوبك الذي يشفي جميع أمراضك الذي ينجّي من البِلى حياتك الذي بالرحمة والرأفة يكلّلك الذي يشبع بالخيرات مُشتهياتك فيتجدّد مثل النسر شبابك” (مز ١٠٢ : ١ – ٥). ويتناول المزمور ١٠٣ الذي نصلّيه في صلاة الغروب وجهًا آخر من وجوه البركة هو الإعجاب بعظمة الله: “باركي يا نفسي الربّ أيّها الربّ إلهي لقد عظُمت جدًّا، بالبهاء والجلال تسربلتَ، اللابس النور مثل الثوب، الباسط السماء كالخيمة، المسقّف بالمياه علاليّه، الجاعل السحاب مركبته…” ويسترسل في هذا التأمّل البديع إلى أن ينتهي بالهتاف من جديد “باركي يا نفسي الربّ”. إنّه الإعجاب بعظائم الله مع الشكر والتسبيح والفرح… إنّها الخليقة تفرح بخالقها. أمّا المزمور ٦٢ الذي نتلوه في صلاة السحر فيذيقنا طعم البركة: “كذلك أباركك مدى حياتي وباسمك أرفع يدي فتشبع نفسي كما من شحم ودسم” (مز ٦٢ : ٤ و٥).
وتتّخذ البركة ملء معناها بكونها دائمة: “أباركك مدى حياتي” و”أبارك الربّ في كلّ حين” (مز ٣٣ : ١). “الخالق الذي هو مبارك إلى الأبد آمين” (رو ١ : ٢٥). وليكن اسم الربّ مباركًا من الآن وإلى الدهر”. ذلك بأنّ البركة ملازمة للخلق”: وكانت الأرض خربة خالية… وروح الله يرفّ على وجه المياه” (تك ١ : ٣). روح الله يبارك الخليقة. الخليقة توجد وتحيا ببركة الله عليها. والبركة بالنتيجة تحمل روح الله إلينا[3] والعذراء بعدما حلّ عليها الروح القدس أصبحت “المباركة” في النساء. والكأس التي هي شركة دم المسيح هي “كأس البركة” (١ كو ١٠ : ١٦). “الربّ يسوع بارك وكسر…” (مر ١٤ : ٢٢). فتتجلّى البركة كخلاصة لكلّ تدبير الربّ وخلاصه. وهكذا نرى أنّ البركة هي عطيّة سرّ الحياة…
فعندما نعي خلفيّة البركة هذه ونفتح قلبنا لها[4]، يعطينا الله أن نحسّ – كلّما وردت في صلاتنا، وكأنّنا مظلّلون ببركة الربّ ومحاطون ومغتذون بها “كما من شحم ودسم” – بحلاوة حضور الله، بنعمة روحه القدّوس، وحينئذٍ نكون نصلّي، لا بكلمات صلاة بل في حالة صلاة دائمة. وقد قال الآباء: “إنّك حين لا تصلّي إلّا حين تصلّي فأنت لا تصلّي أبدًا”.
وعلى هذا المنوال نستطيع أن نعمّق مفهومنا لوجوه أخرى، غير البركة، من وجوه الصلاة الكنسيّة، فنغذّي بها صلاتنا الشخصيّة. فعلي سبيل المثال، وبصورة سريعة، إنّ عبارة “يا ربّ ارحم” ترتبط بكلمة رَحِم، كما أصبح معروفًا، ونحن نطلب بها إلى الله “الرحيم” أن يحملنا في “أحشاء رحمة” (كو ٣ : ١٢) كما تحمل الأم الجنين في رحمها. أمّا تكرارها في الخدم الكنسيّة بين ساعة وأخرى فللاستغفار عن الزلّات الحاصلة بين ساعة وأخرى، وأيضًا لكي ننزل معها في طلب الرحمة (٤٠ مرّة مثلًا) إلى داخلنا العميق ليُحرق الربّ في أعماقنا “جراثيم” خطيئتنا، وبالنتيجة لكي نثبت ونقيم في حالة روحيّة ثابتة هي حالة التوبة الدائمة.
أمّا قولنا “آمين” في نهاية طلبات الكاهن فيجعلنا نلتزم ونتبنّى الصلاة ونتقبّل مفعولها فينا بروح اليقين (أنظر مر ١١ : ٢٤)، ونشترك مع الجماعة كلّها بقولنا آمين معًا مؤلّفين الكنيسة (أنظر رؤ ٧ : ٩ – ١٢)، واعين بأنّنا إنّما نعيش إيماننا بنعمة المسيح الأمين الآمين (أنظر ٢ كو ١ : ٢٠ و رؤ ٣ : ١٤ و٢٢ : ٢١).
وأمّا تلقّي سلام الكاهن فهو، إلى جانب ما يحمله من دعوة إلى السلام (لأنّنا بدونه لا نستطيع أن نصلّي: أنظر متى ٥ : ٢٣ – ٢٤)، ينقل إلينا غنى سلام المسيح الكاهن الأوحد: “سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا” (يو ١٤ : ٢٧) فننعم بالسلام وننقله إلى غيرنا.
وكذلك “المجد لك يا إلهنا المجد لك” و”هلليلوييا” وما تحويه من تسبيح وشكر وفرح، نردّدها من وقت إلى آخر خلال الطقوس كلّها لتبقينا حاضرين حقًّا في حضرة الله.
وهناك أيضًا آفاق “الملك السماويّ” والصلاة الربّانيّة ودستور الإيمان، وتلاوة المزامير على أكثر من صعيد ومعاني التبخير والسجدات ومواضيع النور والخلاص والشكر وغيرها… التي تُنسَج منها صلاتنا … وكلّها تغنينا.
تلك هي الصلاة – إذا ما استوفيت شروط التوبة والاتّضاع – التي تفتح لنا أبعادًا وتعطي لوجودنا معنى وطعمًا إلهيًّا، فتطهّرنا وتنيرنا وتشبعنا وتملأ كياننا اطمئنانًا وتفعم علاقتنا بالآخرين سلامًا ومحبّةً والتزامًا.
المرجع : مجلّة النور، العدد الثاني، ١٩٩٣.
[1] إنّ اليوم الليتورجيّ (الذي يبدأ بصلاة الغروب) يُستهلّ بالمزمور ١٠٣ “باركي يا نفسي الربّ”. والأسبوع الليتورجيّ (الذي يبدأ بصلاة غروب يوم الاثنين) ترنَّم في مطلعه “ها منذ الآن باركوا الربّ”. والسنة الليتورجيّة (التي تبدأ في الأوّل من شهر أيلول) نردّد في مطلعها “بارك إكليل السنة يا ربّ”.
[2] كمباركة الطعام والبيوت والثمار والأشخاص وغيرها، وشيوع استعمال كلمة بركة في عاداتنا في مناسبات التهنئة (“مبروك”) والإعجاب (“تبارك الله”) وغيرها (“فلان الشيخ بركة أو زيارتكم لنا بركة” وما شابه ذلك). والجدير بالذكر أنّ التحيّة السارية في جبل آثوس ليست السلام العاديّ بل القول “بارك” أو “باركوا” والجواب “الربّ” (يبارك).
[3] يفسّر الآباء الآية الواردة في المزمور ٣ الذي نتلوه في صلاة السحر: “للربّ الخلاص وعلى شعبك بركتك” بأنّ هذه البركة هي الروح القدس، بينما الخلاص هو المسيح.
[4] من دون أن نفكّر بها عقلانيًّا أثناء الصلاة، وقد قال القدّيس يوحنّا السلّميّ “لا تجعل وقت الصلاة وقتًا لإمعان النظر في اعتبارات روحيّة ولو ضروريّة وإلّا فتخسر النصيب الصالح” (السلّم إلى الله، المقالة ٢٨ : ٩).