مرسيل مرقص
«رجل أوجاع ومتمرّس بالعاهات مزدرى فلم نعبأ به»..
«لقد أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا»..
«كلّنا كالغنم ضللنا، كلّ واحد مال إلى طريقه، فألقى الربّ عليه إثم كلّنا»…
(أشعياء ٥٣)
– من منَّا ليس برجل أوجاع إلى حدّ ما؟.. ولكنّه «هو» رجل الأوجاع الأوّل، رجل أوجاع كلّ منّا إلى حدّها الأخير، إلى آخر ما يمكن أن يبلغ إليه الإنسان من الأوجاع والازدراء…
– شبكة الآلام التي دخلها الإنسان بعد الخطيئة الأولى، والتي يتخبّط فيها إلى ما لا نهاية، كان لا بدّ، لكيما يخلص، أن يصل به واحد إلى أقصى نقطة فيها يمكن أن يتصوّرها العقل أو يفترضها. وقد وصل «هو» إلى تلك النقطة القُصوى من أوجاع الإنسان.
– تلك هي «الرحمة العظمى» التي ترتّلها الكنيسة في تراتيلها، الرحمة التي تدرك الإنسان في أعماق لا قرار لها من الشقاء واليأس، رحمة الإله الذي يضع نفسه في سبيل أحبّائه..
– تلك هي محبّة الله، لأنّ الله وحده يعرف أن يحبّ مثل هذه المحبّة. الإنسان المسكين المتعطّش إلى عطف ومحبّة لا حدّ لها، وهو يتسوّلهما أبدًا هنا وهناك، يجب أن يعرف أنّ الله أحبّه بهذا المقدار، أحبّه «إلى المنتهى». يجب أن يعرف ذلك جيّدًا لتكون له الدالّة أن يصرخ إليه في ضيقه: أحبّني يا الله..
– إنّ الخلاص من فوق.. من منّا لم يختبر عدم إمكانيّة الخلاص من نفسه؟ الخلاص عطيّة، كلّ شيء عطيّة.. لقد خُلقنا مرّة أولى من العدم إلى الوجود، وها نحن نُخلق ثانية من الموت إلى الحياة. والخليقة الثانية أعجب من الأولى، ولكن للمحبّة كلّ شيء مُستطاع..
– ما تنبّأ به أشعياء قد تمّ. يسوع جاء، كما كتب عنه، وتمشّى بين البشر وأحبّهم، فازدروا به وأماتوه ميتة العار.. فكانت الفدية والقيامة والخليقة الجديدة. جاء وقال لهم: أنا هو الحياة… وأنا أضع نفسي عن الخراف.. وإن لم تؤمنوا بأنّي أنا هو تموتون في خطاياكم..
– ونحن لا نريد أن نموت في خطايانا.. جاء وأزالها من الوجود، فلماذا نموت في خطايانا؟
– لقد أعطانا كلّ شيء ممكن، وما عاد هناك ما يمكن أن نُعطاه. فلماذا نسأل بعد ونفتّش عن الخلاص؟ إذا ما تابعنا أيضًا تفتيشنا عن الخلاص فنحن ضالّون وغير واجديه، لأنّ الخلاص حاصل فلماذا نفتش عنه بعد؟ لماذا نتخبّط بعد في ظلمات القبر وكابوسه والحجر قد دُحرج عن الباب؟ كان عظيمًا جدًّا ولكنه قد دُخرج. وبمقدار ما كان عظيمًا فالخلاص عظيم..
– إنّ خطأنا كما يقول إسحق السريانيّ، هو في أنّنا لا ننتبه كفاية إلى خلاص القيامة، في أنّنا لا نوالي حقيقة القيامة انتباهًا حياتيًّا كافيًا. كان القدّيس ساروفيم ساروفسكي يستقبل زائريه في كلّ حين بتحية «المسيح قام». وفي الحقيقة يجب أن يصبح هتاف «المسيح قام» لا تحيّة عيد الفصح وحسب بل تحيّة كلّ صباح ومساء، لأنّها حقيقة كلّ صباح ومساء..
– كلّ صباح ومساء يجب أن نفتح أيدينا إلى الله ونتقبّل منه بإيمان عطيّة الخلاص.. يجب أن نفتح قلوبنا للفرح الذي لا يوصف ونشترك مع الخليقة المبتهجة بخالقها، لأنّه «هوذا كلّ شيء قد صار جديدًا».. المسيح قام. هذه البُشرى تغمر الكون، فلا بدّ أوّلًا من أن تغمر قلب الإنسان.
– وإن كنّا ما نزال مصلوبين، مصلوبين بما فعلته أيدينا، فلنذكر أنّ في وسطنا مصلوبًا آخر لم تفعل يداه شيئًا، وأنّ هناك موقفين فقط تجاهه، فلا نكن لمصلوب اليسار ـ أو بالحريّ فلينتهر فينا مصلوب اليمين مصلوب اليسار ويُسكته، ويتوجّه إلى الربّ فارغ اليدين معترفًا بشقاوته وشقائه: «أذكرني يا ربّ إذا أتيت في ملكوتك»، فإنّ الاعتراف بفراغ اليدين هو الضمانة الكبرى أن نسمع صوت الربّ قائلًا: «الحقّ أقول لك اليوم تكون معي في الفردوس»..
لقد شاء مليكنا أن يظهر شيئًا من عظمة مملكته حين دخل أورشليم للمرّة الأخيرة لكي يقدّم نفسه حملًا للفصح الجديد، فدخلها بذلك الموكب الفخم وتلك المظاهرات الحافلة، والكلّ يهتفون له ولمملكته أوشعنا، حتّى الأطفال والرضّع كما لقّنهم الروح القدس، وكان ذلك كافيًا لإقناع اليهود بأنّه الملك الروحيّ الذي كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر. وهو يملك على قلوب الناس. لا يبتغي مجدًا عالميًّا. بيد أنّ أورشليم لم تعلم حتّى في يومها ذاك ما هو لسلامها إذ كان قد أُخفي عن عينها كقول المسيح لها، وذلك لاستحواذ داء الكبرياء والحسد على قلبها.
المرجع: مجلّة النور، العدد الرابع، نيسان، ١٩٥٩.