مرسيل مرقص
رئيس مركز اللاذقيّة
تعتقد حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة بوجود انحطاط في الكنيسة الأرثوذكسيّة الشرقيّة، وكان الاعتقاد بهذا الانحطاط الداعي الأوّل إلى تأسيس الحركة. ولا تُعنى الحركة بالانحطاط ذلك الضعف الذي نشاهده في طوائفنا الأرثوذكسيّة من الناحية العدّديّة والماليّة والإداريّة، وتلك الانقسامات التي تسودها فحسب. بل الانحطاط الحقيقيّ الأوّل هو في أعينها الابتعاد عن الحياة المسيحيّة واعتبار الديانة كعوائد قديمة شكليّة ومواجهة جميع المشاكل الطائفيّة كمشاكل إداريّة أو شخصيّة لا كمشاكل كنسيّة. الانحطاط الحقيقيّ هو الذي تسرّب إلى أساس الكنيسة فزعزع بناءها، ونحن لا نرى سوى الشقوق الظاهرة على الجدران، إنّما الداء خفيّ. فعندما أدركنا ذلك الانحطاط وصمّمنا النيّة على معالجته وجدنا أنفسنا أمام طريقين مختلفتين: طريق هي طريق العمل الخارجيّ الصاخب ذي المظاهر الاجتماعيّة والخيريّة تؤدّي إلى الشهرة والمجد. وطريق أخرى هي طريق العمل الداخليّ الصامت. الذي لا مظهر له سوى مظهر الحياء والانعزال لا تؤدّي إلى شيء، سوى إلى اللانهاية. طريق هي طريق الازدهار الطائفيّ المادّيّ، المدارس الراقية والكنائس الفخمة، تكون فيه الطائفة كتلة سياسيّة قويّة. وطريق أخرى هي طريق الازدهار الشخصيّ الروحيّ الذي لا يهتمّ بالمدارس والكنائس إلّا لينفخ فيها روحه الحيّة، ولا يعتبر الطائفة كتلة «بل كرمة» زرعتها يمين الربّ يجب أن تنمو في كلّ صوب بسقاية روح الربّ طريق هي طريق المادّة. وطريق أخرى هي طريق الروح..
فسلكنا طريق الروح. ومن ذلك الحين اصطبغت حركتنا بالصبغة التي تتميّز بها. فهي تعتقد أنّ الإصلاح الداخليّ يجب أن يسبق الإصلاح الخارجيّ والنهضة الفرديّة الشخصيّة أن تسبق النهضة الطائفيّة الاجتماعيّة. « يقولون لنا: نظّموا الطائفة حتّى نعمل. فنجيب: اعملوا أوّلًا حتّى يتمّ التنظيم». مثال صغير: تصوّروا الأرثوذكسيّة أمّنا امرأة مريضة ملقاة على الفراش، شاحبة اللون، خاذلة القوى. فكيف تدارونها؟ أتطلون وجهها بالمساحيق لتزيلوا عنه الشحوب، وتنهضوها من الفراش وتركبونها عربة تجول بها في المدينة، لتخدعوا الناس وأنفسكم بأنّها قد استعادت صحّتها وقواها؟ أم تداوونها بالهدوء والراحة وبالطعام الصحّيّ المغذّي حتّى تستعيد رويدًا رويدًا لونها الطبيعيّ وقواها الحقيقيّة؟…
أمّا الراحة والهدوء فلكي نتأمّل بالأرثوذكسيّة ونشعر بجمالها، وأمّا الطعام الصحّيّ المغذّي فمطالعة الإنجيل المقدس. بهذا الدواء وحده تدبّ الحياة في جسم الطائفة فتحيا بالأرثوذكسيّة. هدفنا كلّه يحدّد بهذه العبارة : «أن تحيا الأرثوذكسيّة». نريد أن نحيا الأرثوذكسيّة أي أن نهتزّ في صميمنا لذكرها والتأمّل فيها وأن تملك الأرثوذكسيّة كلّ حياتنا فلا نعود نفكّر ولا نشعر ولا نعمل إلّا بروحها. هذا هو المبدأ الأساس وهدفنا الأوّل الذي إن تمّ، تمّ كلّ شيء من بعده.
غير أنّنا لا نبغى معالجة الداء وحدنا ولا نعتقد بأنّه يمكننا معالجة الداء وحدنا. إذا كانت الطائفة نائمة فعلى الطائفة أجمع أن تنهض. إذا المريض نفسه لا يريد أن يشفى فلا أحد يستطيع أن يشفيه. نحن لا نعمل خارج الطائفة بل ضمنها وفي سبيلها. فعلى الطائفة أجمع أن تشعر بما نشعر وتعتقد بما نعتقد. على الطائفة أجمع أن تتشرّب روح الكنيسة وتدخل في تيّار التجدّد. لذلك نحن لم نلبث منذ تأسيس الحركة أن ندعو الجميع إلى الاشتراك فيها. ولن يطمئنّ لنا بال إلّا عندما تنتشر الحركة في الطائفة أجمع فتصبح الطائفة الحركة والحركة الطائفة. بل لا يكون هناك طائفة ولا حركة إنّما تكون الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة.
أمّا سيرنا جميعًا نحو الغاية المبتغاة فلا يمكن أن يجري إلّا تحت ظلّ السلطة الروحيّة وبرعايتها الأبويّة. فنحن لا نعمل خارج الإكليروس والكنيسة بل نعمل ضمن الكنيسة وحسب روح الكنيسة. ليست حركتنا كنيسة ضمن الكنيسة: إنّها جزء متمّم للكنيسة فحركتنا قويّة بالعطف والتقدير اللذين حصلت عليهما منذ أوّل وهلة من قبل رؤساء الكنيسة الأنطاكيّة المقدّسة وهي تعمل في كلّ مركز برعاية رئيس الأبرشيّة.
نريد المعاونة أيضًا مع سائر رجال الكهنوت الذين يفهموننا ويريدون أن يتعاونوا معنا. ونعلّق على هذا التعاون الأهمّيّة الكبرى.
على هذا الطريق وبهذه الروح سارت حركتنا حتّى اليوم، متّكلة على الله تعإلى عاملة على خدمته وخدمة كنيسته خدمة منزّهة صادقة بكلّ ما لديها من وسائل.
وقد أصبحت الآن مؤسّسة قويّة معترفًا بها لها تأثيرها في حياة الطائفة ولها كلمتها التي تستوحيها من الروح القدس. وصدى هذه الكلمة يتجاوب في الوديان وعلى رؤوس الجبال بين مركز ومركز وفي سائر أنحاء البلاد وهو يخلق جوًّا جديدًا تتّصل به القلوب وتتشابك وتنسجم في حياة واحدة ومثل أعلى واحد.
وها لحن عظيم يسمع في سائر الأقطار الأرثوذكسيّة لحن الرجاء والأمل، لحن اليقظة والعمل، لحن لشباب الأرثوذكسيّة يستوقفون حياتهم كي ينهضوا بها إلى ذروة المجد والكمال. حينئذٍ يزول ذلك العبوس من على وجه يسوع، حينما ينظر إلى الأرثوذكسيّة المتضعضعة الخاملة فيراها قويّة شاملة. يزول ذلك العبوس وتحلّ محلّه ابتسامة الرضى. فلنعمل من أجل تلك الابتسامة. فإنّها جديرة بأن نبذل حياتنا من أجلها.
المرجع : مجلّة النور، عددا آذار ونيسان، ١٩٤٥.