صنم الطائفية

ابراهيم رزق Monday November 30, 2020 1211

تتزايد الأحداث الدمويّة الناتجة عن خلفيّات دينيّةٍ أو طائفيّة أو عرقيّة، بوتيرة تصاعديّة، وينتج عن هذه الأحداث إضافة إلى وقوعِ أبرياء، من ضحايا ومصابين، استنفاراتٌ سياسيّة وإعلاميّة ، تُغذّي كُلُّها العصبيّات والتقوقع، فتوجِّهُ أفعالًا وتستثير ردودَ أفعالٍ ومواقفَ تُوَظَّف في تعزيز نشر الخوف ومفاهيمِ الإلغاء، والرُّهاب من الآخر. وغالبًا ما ينتج عنها إجراءاتٌ وتدابيرُ أمنيَّة مبالغ فيها.

إنّ مشهد النزاعات الطائفيّة سواء أكانت مسلّحة أم غير مسلّحة، يتوسّع على مستوى العالم. ففي أوروبّا مثلًا تُلاحق فرنسا أصوليّين إسلاميّين ارتكبوا جرائم ضدّ أبرياءَ لأسباب مرتبطة بخلفيّات دينيّة وعرقيّة. في حين تعلن ألمانيا عن اكتشاف أجهزة الأمن لديها، خليةً إرهابيّة كانت على وشك القيام بهجمات مسلّحة، وتنفيذ اغتيالات تطال مسلمين، وتفجير مساجد ومراكز إسلاميّة. فالطائفيّة إذًا ليست حكرًا على أحد.

هذا، من دون أن نغفل الإشارة إلى المآسي والكوارث والآثار المدمّرة التي تسبّبت بها النزاعات الطائفيّة الدينيّة في العقود الأخيرة كالحرب اللبنانيّة، ومجازر الجزائر، والبوسنة والهرسك، والشيشان، وسريلانكا وأفغانستان والعراق وسوريا، وصولًا إلى حرب أذربيجان وأرمينيا. حروبٌ وَوَيلاتٌ حصلت نصرةً لله وباسم الدين، نتج عنها ملايين الضحايا والملايين من المعوّقين جسديًّا ونفسيًّا والمشوّهين والمصابين، بالإضافة إلى ملايين الأرامل والأيتام، ومئات ألوف الأبنية المدمّرة. وتبقى نتائج ويلات النزاعات الطائفيّة-كباقي النزاعات- حاضرةً سنينَ طويلةً، وتؤثر على أجيالٍ عديدة فقرًا ومآسيَ حيث تضرب البنى الإقتصاديّة والتعليميّة فَيتمزَّقُ النسيجُ الاجتماعيُّ، وتعمُّ العصبيّة، وينتشر الفقر ويسيطر الجهل. وهكذا يسود الفقر والعنف والتخلّف، ويعشعش في مجتمعاتٍ تشكّل خطرًا على ذاتها وعلى سواها.

ودائمًا، تلعب السياسة دورًا جوهريًّا في توظيف النزعات بعامَّةٍ، والنزاعات الطائفية بخاصَّةٍ، لخدمة مشاريعها وأهدافها الاستراتيجيّة والتكتيّة والانتخابيّة. والتجربة التاريخيّة تؤكِّد أنّه، في كلّ مرّة تمّ فيها استغلال الدين في السياسة، حدثت حروبٌ وويلاتٌ وأهوالٌ، وأعمال عنف، واستدعاء الهويّات الدينيّة، وفتح جروح التاريخ.

وأمام هذا الواقع واعتباراته وموروثاته، نجد بعض المسيحيّين يعتقدون أنّ مسيحيّتهم تستدعي منهم مناصرة هذه الحالة الطائفيّة أو تأييدها أو دعمها في وجه مثيلاتها من الحالات.

هل يمكن للمسيحيّ أن يقبل المفاهيم الطائفيّة أو أن يتصالح معها؟!

الجواب قطعاً لا. وذلك استنادًا إلى وصايا الرب يسوع وإلى تعليم الكنيسة وآبائها. فقد ورد في البيان-الرسالة الصادر عن المجمع الأنطاكيّ المنعقد في دير شويّا سنة ١٩٧٥:”إنّ القمع الطائفيّ هو عنصريّتنا اللبنانيّة. في سبيل كلّ اللبنانيّين ندعوكم إلى الكفاح في سبيل إلغاء الطائفيّة السياسيّة…”

 

فالطائفيّة مُدانة ومرفوضة بأشكالها كافّة، لأنّ الطائفيّات كلَّها جريمةٌ، والطائفيات كلّها فِتَنٌ وحروبٌ أهليّة.

والطائفيّة، في كلّ أشكالها وتجاربِها، ليست سوى استغلال لله كذريعة لتأكيد هويّة اجتماعيّة أو تفوّق دينيّ أو مذهبيّ. وهكذا يغيب الإله الخالق والمحبّ للبشر، والذي من فرط محبّته أرسل ابنه الوحيد لخلاص العالم، كلّ العالم، لكي تكون لهذا العالم الحياة، وتكون له افضل.

الطائفيّة بحقيقتها العميقة تُغيّبُ الله الذي عرفناه بيسوع المسيح المصلوب، لتُحِلَّ محلَّه في أذهان الناس صنمًا يخدم الأهواء الطائفيّة في القتل والتشريد والتسبّب بالرعب والألم والجراح العميقة في النفس.

وبكلمة موجزة، تجعل الطائفيّة من الله خادمًا لتأليه مجد الطائفة في استعادة للموقف الرافض ليسوع، الله المتجسّد، من قبل اليهود وكهنتهم الذين رأوه بأعينهم ولمسوه بأيديهم، ورفضوه لانّه ليس من الله. فاللّه بنظرهم ينحصر دوره بإعلاء مجد أمَّتِهم. وأكثر من ذلك فقد لعنوا من تبع المسيح، واعتبروا أنّهم لا يفهمون الناموس، وَحكموا علىيسوع بالموت إنفاذًا لشريعة الله، فبموته يَموتُ واحدٌ عن الأمَّة.

إنّنا، عِنْدَ أيّ انزلاقٍ في قبول الطائفيّة، نَستعيدُ دَوْرَ اليَهودِ وَكهنتِهم في رفض الحقّ.

يعلّمنا القدّيس يوستينوس الشهيد، أنّ بذور الكلمة الإلهيّة مبثوثةٌ في ثنايا الوجود بأسره. إنّ الطائفيّة تحصر هذه البذور في أتباعِها، وترفض رؤيتها عند سواها.

 

في كلّ قدّاس إلهيّ تبتهل الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى الله وتطلب منه سلام العالم كلّه، وثبات كنائس الله المقدّسة. ولكون التّمسك بالطائفيّة لا يولّد إلّا الاضطراب والتوتر والتقوقع والخوف، فعلى المؤمن، المنشد للسلام الذي من العلى والساعي إلى عيشه، أن يرفض كلّ الحالات الطائفيّة التي تُنْتِجُ تقزيمًا وَتشويهًا للجماعة المؤمنة، وتحوّلها إلى جماعة منغلقة خائفة فاقدة لثقتها بالمصلوب، وَمراهِنَةٍ على ما تَعتقدُه قوَّة في هذا العالم.

بثباتنا في المحبّة تثبت كنائسنا، ونخرج من الخوف، فنبتعد تلقائيًّا عن الطائفيّة وويلاتها وعثراتها وسقطاتها.

ابراهيم رزق

2 Shares
2 Shares
Tweet
Share2