الدير ومضافة إبراهيم

جورج ناصيف Sunday February 21, 2021 167

جورج ناصيف

عندما غاب شيخ الرهابين في أنطاكية الجريح عن الأبصار، ليمكث في الحشا والرؤى، أدركنا كم كان مستقرًّا في التجاويف العميقة والسرّيّة، حاملاً الطيب الغالي الثمن يرشّ به، ليمسح المؤمنون باللَّه وجوههم، فيجلو عنها التعب والعمر اليابس.

ما استقرّ فينا من الأب المتطلّع إلى الثالوث المحيي هو أرحب من السماوات.

استقرّ فينا، أنّه كائن العبادة والصلاة الموصولة لم يكن لاهوتيًّا، ولا بحّاثة في شؤون العقيدة أو التاريخ الكنسيّ أو تاريخ الأديان. كان أكثر وأعمق أيضًا إيغالاً وسكنى داخل مظالّ الآيات الإنجيليّة، يبتلع الإنجيل حتّى صاره أو لكأنّه مستقرّه، فعاد لا يحسن كلامًا سواه.

واستقرّت فينا تلك البساطة والوداعة التي تجعل الحجارة تحنّ وتئنّ، وتدمع رقّة فلا غلطة ولا استكبار ولا ادّعاء معرفة، أو خبرة في معاشرة يسوع، أو مجالسة القدّيسين. أخضع ذكاءه ومعارفه في الدنيا التي تحصّلت بعد سنوات من العمل العامّ، لبساطة يدهشك أنّها بساطة النهر أو الشجرة أو السماء الرحيبة، لا يبلغ البلوريّة إلاّ من كان كثيفًا كثافة الشهداء وعشراء السيّد.

استقرّ فينا هذا »العناد« المبارك في التزام الرهبانيّة بكلّ خشونة حياتها وأسهار لياليها، رجاء أن يذوق رقّة يسوع وطراوة صدره وجنبه، كثيرون عبروا هذا الدير مستقرّين فيه شهورًا أو سنوات، ثمّ بارحوه إلى العالم. أمّا هو، فبقي جزءًا من أيقونات الكنيسة وعبقًا من بخورها.

استقرّ فينا، إنّه لم ينشئ ديرًا مغلقًا للدعاء، بل مضافة إبراهيم للغرباء والعطاش إلى الكلمة، فلا تلج الدير حتّى تهطل عليك طيّبات الكلام على مائدة القلب، فتقتات من القلب عسلاً برّيًّا وزيتونًا وزيتًا لمصباحك وسراجًا لدربك الوعرة.

ما استقرّ فينا تلك المداعبة التي كانت تسيل منه في وجه كخبز التنّور، سخن وطازج وفرح ويقظ، هل عرف أحد أبانا الحبيب حزينًا يومًا، أو ممسكًا عن إطلاق دعابة منعشة؟

ما استقرّ فينا أنّك ما من مرّة تنأى عن الدير أسابيع أو أشهرًا، ثمّ تؤوب إلى بيتك أوبة الابن الشاطر، إلاّ وتلقاه عند باب الدير فاتحًا ذراعيه لهذا المشاكس أو المشاكسة، غير معيب عليك هجرانًا طال، ماسحًا رأسك بزيت الرحمة والمغفرة، معدًّا لك العجل المسمّن ابنًا للبيت تتوسّّط صدارة المضافة التي يشحّ منها الزيت المقدّس والدعاء الرفيق.

ما استقرّ فينا هو راهب عبر عالمنا؟

استقرّ فينا أنّه كان راهبًا ميرونًا طيّب العرف.

فلمّا استدعاه ربّه إلى مملكة الآب والابن والروح القدس استحال بخورًا يبخّر العرش.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share