دير ما جرجس الحرف مركز إشعاع

إيمّا غريّب خوري Sunday February 21, 2021 151

إيمّا غريّب خوري

ما هي شهادتي بالأب إلياس (مرقص)؟ وأنا أفضّل كلمة أب على سواها، لأنّه كان الأب الروحيّ بامتياز. شهادتي تعبّر عن إعجاب وإجلال وتقدير.

لا أنسى يوم التقيته، هذا اليوم بقي راسخًا في ذاكرتي وتاريخه مسجّل في عقلي وقلبي. في ٢٢ تشرين الثاني ١٩٥٧، اغتنمنا فرصة العطلة الرسميّة لعيد الاستقلال، لكي ننطلق مع الأب جورج (خضر) كاهن ميناء طرابلس يصطحبه شابّ من اللاذقيّة يدعى مرسال مرقص، من طرابلس إلى دير ما يعقوب ددّه في الكورة، هذا الدير الذي كان آنذاك في طور التأسيس. كان يومًا خريفيًّا شماليًّا عاصفًا ممطرًا، المطر غزير يرافقه زمهرير مع بروق وزمجرة رعد. لا أذكر أنّي تكلّمت معه لأنّه كان صامتًا يؤثر الاستماع إلى الآخرين. وفجأةً، حصل دويّ اصطدام هائل، إذ انقضّت علينا سيّارة فقدت توازنها، فنجونا من الموت بأعجوبة.

ومرّت الأيّام، وانتقلت إلى بيروت، وانتقل مرسال إلى قرية دير الحرف راهبًا مصلّيًا في دير القدّيس جاورجيوس مؤسّّسًا ومرمّمًا. كانت تجمعه بزوجي صداقة متينة قويّة، ذهبنا لزيارته، لكي يبارك زواجنا، ويعطينا شيئًا من بركته. أوّل انطبـاع لذلك اللقاء الثاني هو ذلك الشعور بتواضعه مع شخصيّة صلبة. تواضع مبطّن بوداعة فائقة وطيّبة فيها شيء من الخفر. يتكلّم بصوت خافت، ويستقبل زائريه بحفاوة، والبسمة لا تفارق محيّاه. علمت أنّه ترك أمجاد الدنيا ومركزه المرموق في مجتمعه الراقي، لكي يلتحق بالدير.

أعجبت بهذه المبادرة، وتساءلت: هل يوجد في عصرنا أناس يطبّقون كلام المسيح »تعال اتبعني؟« أجل أراد الأب إلياس أن يكرّس حياته لعشق يسوع الناصريّ الذي احتلّ المركز الأوّل بلا منافس في قلبه. تلك الشخصيّة المميّزة جذبتنا، فأصبح دير الحرف في الستّينات محجّتنا إلى الصلاة والتأمّل. عرف أولادنا حبّ الطبيعة والسكون في ربوعه. نتغذّى روحيًّا، ونرتاح، في هذا الجوّ الدافئ الهادئ، إلى غمرة هذا الوجه المشرق المبتسم الذي يستقبلنا بكلّ حفاوة، ويدعونا جميعًا إلى مائدته في ذلك الدير المضياف. وما كان يزيد فرحنا سرورًا وجود الأب أندره (سكريما) الذي كان الأب إلياس يحبّه، ويستفيد من علمه بكلّ تواضع. كان يتوارى، لكي يبرز الأب (سكريما)، فينصت لأقواله، ويسجّلها.

ميزة الأب إلياس هي مقدرته على الاستماع إلى الآخر، يوجّهه نحو السراط المستقيم بكلمات هادئة متّزنة عميقة، مبنيّة على إيمان عميق مستمدّ من الكتاب المقدّس. كان عنده حدس دقيق يجعله يتفهّم الطبيعة الإنسانيّة بضعفها وسقطاتها، لا يحكم على الخاطئ، ولا يأتي بخطابات رنّانة، يأتي بكلمات بسيطة بصوت خافت، نابع من قلب ملؤه الحنان والمحبّة. تلك الكلمات كانت تؤثّر في السامع، وتدخل مباشرة في قلبه، وتجعله يتوب من تلقاء نفسه! كان يستمدّ قوّته من إيمانه الصلب، زيارة المرضى كانت من أولويّاته، واهتمامه بشرح الكتاب المقدّس شغله الشاغل.

كنت استمتع بكتاباته وشرح آيات الإنجيل بأسلوبه السلس وأقواله الصادقة، أي كلّ ما يقوله كان ينطبق على حياته. هاجسه المحبّة يريد أن ينشرها في المجتمع المسيحيّ. يوصي بالشفقة »اللَّه شفقة، ومن ليس عنده شفقة، يبقى غريبًا عن اللَّه، ولا يعرف اللَّه، كما يقول القدّيس إسحق السوريّ«. ويتابع في كتاب »يا بنيّ«…»ليتنا نحسّ في العمق، ونعرف عجزنا وشقاءنا ومفلوجيّتنا، ونرتمي بين يدي يسوع فادينا، حتّى نستأهل شفقته قائلاً: مغفورة لك خطاياك«.

رقّة في التعبير وبساطة وشفافيّة هكذا أصف أسلوبه. كان يحفظ الصلوات كلّها غيبًا، يقرأ المزامير من ظهر قلبه كان ملك »التيبيكون« والطقوس. كان يحبّ الموسيقى على أنواعها، ولا سيّما الطربيّة منها، إلاّ أنّه لم يسمح لنفسه بالاستمتاع بها بسبب تقشّفه. كان الراهب بكلّ معنى الكلمة، لطيف صبور محبّ لا قسوة ولا صرامة في شخصيّته. يتحلّى بروح النكتة، ويثير أحيانًا الضحك عندما يتلاعب بالألفاظ، ويجيد الجناس في تعابيره، التي لا تخلو من الفكاهة. سمعته يومًا يحيّي فتاة تسمّى جولييت، فإذا به يسألها »أين هو روميو؟«. هذا مثل عن مزحه الطريف الذي لا يبعده عن صرامة الحياة الرهبانيّة. كان يردّد أنّه ولد يوم توفّي الأمبراطور نابليون في ٥ أيّار، ولكن بعده بقرن!

قبل رقاده، تألّم، وقضى أيّامًا مريرة في المستشفى، حضنه المطران إلياس (عودة) بكلّ محبّة واهتمام. ولمّا ساءت حالته، نصحه الأطبّاء ألاّ يصعد إلى الدير، بل يبقى في المستشفى، وهكذا نصحه سيّدنا إلياس، ولكنّه رفض وأصرّ على أن يعود إلى ديره. فسأله أحدهم هل تريد أن تطيعهم أم أن تسمع رأيك؟ فرفع يده إلى العلاء، وأعلن لا أطيع إلاّ اللَّه. وقبل أن يذهب إلى الدير، اتّصل بنا، ليسأل عن صحّة صديقه ميشال، فتكلّم معه هاتفيًّا، وطلب له الصحّة، وكان هذا الحوار الأخير قبل أن يرقد بالربّ في ديره المحبوب.

انتقل انتقالاً بدون احتضار، بسكون وصمت كما كانت حياته كلّها. انتقل إلى فرح ربّه تاركًا فراغًا عظيمًا في قلوب محبّيه، ولكنّي أكيدة أنّه من علياه سيبقى يتفقّد المرضى، ويصلّي من أجل شفائهم، ويعزّي الحزانى برقّة، متشفّعًا لدى الربّ من أجلهم.

إنّي مؤمنة بأنّ الأب إلياس دخل في نور يفوق كلّ نور مقتربًا من محبوبه يسوع الناصريّ الذي كرّس حياته من أجله.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share