الذكرى العَطِرة

إلياس الزيّات Sunday February 21, 2021 165

إلياس الزيّات

المسيح قام

هكذا كان أبونا إلياس يبادر إلى تحيّة مضيفه عند فتح الباب، وكان يزور خاصّته في دمشق، وكان يحبّ دمشق، ويجول على محبّيه فيها كلّما تردّد إليها. أمّا إذا كان الطقس ماطرًا كعادة شتاوى الشام القديمة، فيخلع حذاءه وراء الباب كيلا يحمل الطين إلى داخل المنزل.

أبونا إلياس من اللاذقيّة، لاذقيّة العرب كما عرّفنا إلى اسمها صديقه المرحوم جبرائيل سعادة.

السنة… لا أتذكّر في أيّ سنة كان ذلك… الوجوه، بالطبع، يصعب أن أتذكّرها كلّها، ما يزال بعضها عالقًا في ذهني… الحدث أراه اليوم يمثل أمامي، في كلّ مرّة أتذكّر الأب إلياس (مرقص) فيها:

كان الصباح في كنيسة السيّدة في اللاذقيّة، والمناسبة كانت اجتماع شبيبة الحركة في مؤتمر كما كنّا نسمّيه، كان الأب إليـاس يقيـم لنـا القـدّاس الإلـهيّ آنذاك بلباس أبيض… أخذنا، وحلّق بنا معه إلى حيث شاءت قدرته الروحيّة.

هكذا كان هذا القدّيس إذا تحدّث أو وعظ أو قاد الجماعة، فينزل إلينا ثمّ يرفعنا إليه وإلى قمم الفكر الروحيّ ودرجات متقدّمة في التصوّف.

من دنيويّة الوظيفة في وزارة الداخليّة، صار مرسيل مرقص قائم مقامًا في القطيفة قرب دمشق، فصار يأتيها ويجمع شباب الحركة ولمّا يجتز أكثرهم المرحلة الجامعيّة، فيصلّون ويتحدّثون في بيوتهم في دمشق أو في دير معلولا، ثمّ يتعشّون معًا بعد صلاة النوم الصغرى.

أنا لم أكن معهم، كنت مسافرًا في بلغاريا لدراسة الفنّ، ولكنّ أخي جبرائيل ومتري غزال (رحمهما اللَّه) كانا يخبراني، في رسائلهما، عن لقاءاتهما بمرسيل مرقص، إلى أن عدت في مطلع الستّينات، وتعرّفت إليه، ولمست كيف يجتمع بالشباب. ثمّ استقال مرسيل من الوظيفة تاركًا راتبه التقاعديّ لوالدته، وحينها أسّّس مع الأب جورج (خضر) أوّل رهبنة حديثة في الكنيسة الأنطاكيّة في دير الحرف، كنّا نتلهّف لقراءة نشرة الدير للغذاء الروحيّ.

بالإضافة إلى معرفته الروحيّة اللاهوتيّة، كان الأب إلياس (مرقص) متضلعًا من تاريخ الكنيسة، فالعلاقة مع كنيسة رومانيا الأرثوذكــسيّة التي انقطعت في القرون الماضية، وكانت نشطة جدًّا في القرن السابع عشر، وكان هذا الانقطاع، كما يخيّل إليّ، بسبب تغيّر الظروف السياسيّة والاجتماعيّة، هذه العلاقة استطاع الأب إلياس أن يجدّدها باستقباله الأب صوفيان وتلامذته، وهم مصوّرون كنسيّون، لتصوير كنيسة دير الحرف، فكانت أوّل عمل لهم في لبنان، ثمّ قام هؤلاء بتصوير كنيسة القدّيس جاورجيوس في برمّانا، وبعد سنوات من ذلك صوّر تلامذة الأب صوفيان كنيسة الأربعين شهيدًا في حمص بتكليف من المطران ألكسي (عبد الكريم)، ثمّ كنيسة السيّدة في حماه (التي زالت الآن).

كان الأب صوفيان الرومانيّ روحانيًّا من درجة عالية كالأب إلياس (مرقص)، بدليل أنّك إذا كنت تعرف أحدهما معرفة العارف، يخال إليك أنّه يرتفع عن الأرض إذا ما شاهدته ماشيًا أو في أثناء الخدمة الروحيّة.

هذا التقليد الكنسيّ الأرثوذكسيّ، أي تزيين جدران الكنيسة بالمشاهد الدينيّة، قد بعدنا عنه نحن معظم الأنطاكيّين، فعدنا لا نعرف كيف نصلّي قبالة الأيقونة، وصرنا نظنّ أنّ الأيقونة زخرف في الكنيسة، أو قطعة فنّيّة أو أثريّة ليست إلاّ.

وفي الأصول التقليديّة المشاهد المرسومة على قبّة الكنيسة وجدرانها وأعمدتها، هذه العمليّة هي استدعاء السماء إلى الأرض في أثناء الطقوس والخدم الروحيّة، فنعيش مع سكّان السماء المرسومين على الجدران، باعتبارهم أحياء طوباويّين مشاركين معنا في تفعيل النصوص الليتورجيّة، لتكون زادنا في التعامل مع الناس في العالم الأرضيّ.

انتقل الأب إلياس (مرقص) تاركًا لكلّ من عرفه ذكراه العطرة، وتاركًا أيضًا تراثًا هائلاً مكتوبًا، في التأمّل الصوفيّ والحياة النسكيّة .

فليكن ذكره مؤبّدًا.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share