المحبّةُ في التنازل – الأب جورج مسّوح

الأب جورج مسّوح Friday June 10, 2022 579

المحبّةُ في التنازل.
بقلم قُدس الأب جورج مسّوح
النهار الأربعاء 28 أيار 2014

   يُشكّل حدثُ صعود السيّد المسيح إلى السماء وجلوسه عن يمين الله الآب، وفق اللاهوت المسيحي، حلقةً من سلسلة لا تنفصم عراها تمتدّ من تأنّس ابن الله واتّخاذه جسدًا إلى صلبه وقيامته من بين الأموات وصعوده وإرساله الروح القدس إلى العالَم. أمّا الغاية من هذه الأحداث كلّها فافتتاح عهد جديد بادَرَ إليه الله نفسه، في سبيل أن ينال الإنسانُ حياةً أبديّة في حضرة الله وبمعيّته.
تأسَّس هذا العهد الجديد على مجموعة من التنازلات الإلهيّة اقتضتها محبّةُ الله اللامتناهية للبشر. فليس تأنّس ابن الله سوى تنازل قام به من أجل أن يُشارك الإنسان بطبيعته المخلوقة.
وليست آلام ابن الله وصلبه وموته سوى تنازل آخَر… في هذا الصدد يقول الرسول بولس: “المسيح يسوع الذي إذ كان في صورة الله، لَم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنّه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجِد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب” (فيليبّي2 : 6 – 8).
في كل الأحداث التي جرت معه أبدَى المسيحُ تواضعًا كبيرًا حتّى الانسحاق. لقد كان بوسعه أن يولد في قصر ففضّل عليه مذودًا حقيرًا، وأن يولد مَلِكًا عوض أن يكون “عبدًا”، وأن يَصلب الناس لكنّه شاء أن يكون هو المصلوب، أن يكون “جبّارًا شقيًّا” عوض أن يساق كشاة إلى الذبح… هو اختار لنفسه التنازل الأقصى، واختار أن يُحِبّ ويَبذل نفسه مفتديًا البشر من الخطيئة والموت.
بلغ التنازل الإلهيّ ذروته مع صعود المسيح إلى السماء. أمّا السماء، هنا، فليست مكانًا في الفضاء الشاسع، بل هي ترمز معنويًّا إلى حضرة الله. وقد شاء المسيح بصعوده أن يُكرّم الإنسان عبر دعوته إلى السكنى معه إلى الأبد، فيقول: “إنّ في بيت أبي منازل كثيرة. أنا أمضي لأُعدّ لكم مكانًا، وإن مَضيتُ وأَعدَدتُ لكم مكانًا آتي أيضًا وآخذُكُم إليَّ، حتّى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا” (يوحنا 14 : 2 – 3). الهدف من الصعود هو إلغاء الحدود الفاصلة ما بين الأرض والسماء كي يصبح الإنسان من أهل بيت الله.
نعم، بلغ التنازل الإلهي ذروته بصعود المسيح وجلوسه عن يمين الله الآب، إذ اصطحب المسيحُ الطبيعةَ البشريّةَ معه، وكرَّمَ الإنسانَ عبر إجلاسه عن يمين الله في الأعالي. فبفضل المسيح أصبحت الطبيعةُ البشريّة حاضرة في الله نفسه.
وبفضله احتضنَ اللهُ الطبيعةَ البشريّة وأسكنها فيه. في هذا السياق يتوجه بولس الرسول إلى أهل أفسس بقوله: “حين كنّا أمواتًا بالزلات أحيانَا اللهُ مع المسيح، فإنّكم بالنعمة مُخلَّصون. وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويّات في المسيح يسوع” (إفسس 2 : 4 – 5) .
ما يُثير الاندهاش هو أن التلاميذ بعدما عايَنوا صعود المسيح إلى السماء، في حين كان ينبغي أن يحزنوا لافتراقهم عن معلّمهم، “عادوا إلى أورشليم بفرح عظيم” (لوقا 24 : 52).
لقد فرحوا لأنهم أيقنوا أن جوده لا حدّ له، فمن جاد بنفسه على الصليب لن يبخل عليهم بالسكنى معه في الملكوت.

27 Shares
27 Shares
Tweet
Share27