ثمّة حوادث في الحياة ترميك في بحر من الأسئلة لا تنتهي إلى أن تجد لها مينًا ترتاح عليه. وهذا الشاطئ يكون برّ أمانك.
ذهبنا إلى الميناء-طرابلس قاصدين التباحث في بعض الأمور الكنسيّة. وأنا في الطريق أغرقني هاتفي بموجاتٍ من تفاهات النّاس، الذين لا يريدون في الكنيسة سوى تعكير العمل. وصلنا مدينة الميناء، ولم أكن أعلم أنّي وصلتُ إلى مينائي. لطالما رأيت هذه المدينة من الخارج، لكن من يدخل جوفها يولد من جديد.
أرشدنا كاهنٌ ورعٌ إلى كنيسة القدّيس جاورجيوس. لا يمكن أن يخطر على بال إنسان أن يعكس خارجُ هذه الكنيسةِ داخلها. تعتقد للوهلة الأولى أنّك أمام كنيسة على أحد شواطئ اليونان مطليّة بالأبيض وقببها زرقاء. بمجرّد دخولك إلى باحة الكنيسة تتفاجأ بهذا التضاد بين الخارج والداخل. فورًا تشعر أنّك تدخل إلى واحة روحيّة تعزلك عن صخب العالم. دخلنا إلى الكنيسة، ودخلت الكنيسة فينا. ما هذه التحفة الفنيّة! كنيسة مزيّنةٌ حجارتها بصلوات آلاف المؤمنين. كاتدرائية قديمة ضخمة بقدر ضخامة تاريخ من مرّوا فيها. كنيسة تعكس صدى التراتيل بصوت المطران الياس قربان، والأب غريغوريوس موسى، والمرتّل ديمتري كوتيّا، رحمهم الله. كنيسة من هذا العالم ولكنّها ليست من العالم.
خرجنا منها والذهول مرافقنا. خرجنا من ذهول إلى ذهول. دخلنا بيت الحركة. هناك شعرتُ بثقل التّاريخ. شعرت بوجود كبيرة الميناء ماري الدروبي، خادمة الفقراء وراعيتهم. شعرت بوجود شبيبة سبقونا في خدمة الكلمة ونشرها، شبيبة آمنت ببهاء الكنيسة. تعرّفتُ إلى تاريخ شبيبة مثل جورج خضر، وقيصر (بولس) بندلي، وسامر (سلوان) موسي، وطوني (أنطونيوس) الصوري. وكان حضور كوستي بندلي، المربّي والملهم، كثيفًا. رأيتُه مجدّدًا في مكتبته يُحضّر مواضيع للنقاش في اجتماعات الحركة. تخشع في هذه القاعة البسيطة من ورع من مرّ فيها. وتشعر بهشاشتك وضآلة عملك أمام ما أنجز هؤلاء.
كان هناك بضعة شبّانٍ وشابّات يعملون على ترتيبها. البسمات على وجوههم صلاة. ماذا تفعل بنا يا يسوع؟ كيف تُحرّكنا؟ كيف تعزّينا وتُفرحنا؟
إجتمعنا في إحدى القاعات المحاطة بمئات الكتب. هل كنّا نكتب تاريخًا جديدًا، أم أنّ التاريخ كان يكتبنا من جديد؟ لا أعلم. جلستُ أعاين وجوه الإخوة والأخوات. لم أسمع كلّ النقاشات، إذ إنّ وجوه عشّاق الكنيسة خطفتني إليها. ما الذي يجمع مهندسين ومدراء شركات ودكاترة جامعات وبسطاء مثلي سويّة سوى روح الربّ؟ إنّه مُحيينا ومحرّكنا وموجِدُنا. آه منك يا يسوع. كيف تُقلِقنا على كنيستك، وتطمئِنُنا في آن واحد!
خرجنا إلى أزقّة الميناء الساحرة. لو علم القيّمون على هذا البلد قيمة هذه الأزقّة، لصارت الميناء الوجهة الأولى للسيّاح. ذهبنا إلى مطعمٍ، فالميناء لا تتركك جائعًا. جلسنا ربّما في أبسط مطاعم هذه البلدة وأصغرها. تدخلُ وتشعرُ نفسك في بيت لا في مطعم. ناولونا “قطعة من سمك مشوي”، إلا أنّ “شهد العسل” (لوقا ٢٤: ٤٢) كان الحديث على الطاولة. تكلّمنا على المطران الراحل الحاضر بولس بندلي، الذي ألقى فينا عظةً حيّة عن الفرح من خلال “نهفاته”. ضحكنا كثيرًا وخشعنا كثيرًا. أيقنتُ أنّ الفرح ملازم للقداسة وإلا لا يكون الروح معزيًّا.
نظرتُ إلى الوجوه على هذه المائدة “السريّة”، فشعرتُ بغبطة لا توصف. من لم يُدرك إلى الآن أنّ الكنيسة هي وجوه الإخوة، وأن قيمة الإنسان أعظم بكثير من كلّ النقاشات، لم يدخل بعد في سرّ الكنيسة الجامعة الرسوليّة. الكنيسة التي تُدخِلك في تاريخها لتصنع أنت تاريخك فيها.
أكلنا، وبقينا جائعين إلى هذه المدينة التي لا تشبع منها.
في إحدى صلوات الثلاثاء العظيم نقول: “إنّ المتوغّلة في الخطايا قد وجدتك مينًا للخلاص”، وميناء طرابلس كانت لي مينًا لخلاصي من بحر هذا العالم الذي توغّلتُ فيه.