وُلد كبريانس في شمالي إفريقية في أسرة وثنيّة ثريّة ذات ثقافة رفيعة حوالى العام 200، فتبِع تعليمًا جيّدًا وصار خطيبًا لامعًا ومعلّم بلاغة. اهتدى إلى الإيمان المسيحيّ واعتمد على يد الكاهن سيسيليانُس في العام 245. انتُخب أسقفًا على مدينة قرطاجة العام 248. واستُشهد في الرّابع عشر من أيلول من العام 285. تعيّد له الكنيسة في السادس عشر من أيلول.
خلّف القدّيس كبريانس وراءه العديد من المؤلّفات القيّمة. فبالإضافة إلى الرسائل الكثيرة التي دوّنها شارحًا بعض المسائل الكنسيّة والعباديّة والرعائيّة، نذكر كتابه الأهمّ “في وَحدة الكنيسة”. كما أنّه وضع مقالات عدّة، أهمّها مقالة “في الساقطين” الذين جحدوا إيمانهم في أثناء الاضطهادات، ومقالة “في طبيعة الإنسان المائتة” التي يشجّع فيها كبريانس المؤمنين على مواجهة وباء الطاعون الذي انتشر آنذاك في إفريقية، ومقالتا “في مسلك العذارى” و “في منافع الصبر”. يعتبر كبريانس أن “لا خلاص خارج الكنيسة”. وفي هذا الإطار يقول أيضًا: “لا يمكن أحدًا أن يكون الله أبًا له إن لم يتّخذ الكنيسة أمًّا له”، وأيضًا: “كيف يمكن أن يكون مع المسيح مَن لم يكن مع عروس المسيح (أي الكنيسة)”. من هنا تشديده على أهمّيّة وحدة الكنيسة، كونها المجال الوحيد للخلاص، لذلك عليها أن تكون واحدة كما أنّ جسد المسيح واحد. يشبّه وحدة الكنيسة برداء المسيح الواحد، فيقول: “سِرّ الوحدة يمثّله في الإنجيل رداء ربّنا يسوع المسيح. فهو واحد، في قطعة واحدة ونسيج واحد. الوحدة تأتي من فوق، أعني من السماء ومن الآب. مَن يجزّئ كنيسة المسيح ويقسمها لا يمكنه أن يملك ثوب المسيح”. رمز الوحدة الكنسيّة، عند كبريانس، هو الأسقف، فيقول: “عليكم أن تدركوا أنّ الكنيسة في الأسقف والأسقف في الكنيسة”. لذلك، يشدّد على جماعيّة الهيئة الأسقفيّة فيتكلّم مرارًا على “الكنيسة التي هي بأجمعها واحدة، وغير المجزّأة إلى قطع منفصلة، بل هي تشكّل كلًّا، رباطُه اتّحاد الأساقفة”، كما يتكلّم على “أسقفيّة واحدة يمثّلها (في العالم) عدد كبير من الأساقفة متّحدين بعضهم مع بعض”. ويؤكّد كبريانس أن ليس لأسقف رومية (البابا) سلطة ولاية على سائر الكنائس. أمّا أوّليّة أسقف رومية فهي أوّليّة في الكرامة وليست أوّليّة قانونيّة متميّزة، فيقول: “وحدة الكنيسة الجامعة المسكونيّة تتجلّى بكاملها في وحدة الكنيسة المحلّيّة المجتمعة حول أسقفها لإقامة سِرّ الشكر (القدّاس)”. وفي السياق ذاته يذكّر بأنّ “لله وحده السلطان في الكنيسة”. من أهمّ رسائل كبريانس تلك المتضمّنة تفسيرًا للصلاة الربّيّة. ويتكّلم فيها الكاتب على أهمّيّة الصلاة، ولا سيّما الصلاة الجماعيّة التي تتلوها الكنيسة مجتمعة، فيقول: “صلاتنا هي علنيّة وجماعيّة، وعندما نصلّي لا نصلّي من أجل واحد فقط بل من أجل الشعب كلّه، فمع الشعب كلّه نحن واحد. إنّ إله السلام وسيّد الاتّفاق الذي يعلّمنا الوحدة أراد أن يصلّي كلّ واحد من أجل الجميع”. وفي تفسيره لعبارة “ليتقدّس اسمك” يقول كبريانس إنّنا عندما ننطقها فإنّنا “لسنا نقول هذا تمنّيًا لله أن يتقدّس بصلواتنا. بل نقوله لنطلب إليه أن يتقدّس فينا. ثمّ مَن يقدّس القدّوس نفسَه؟ إذًا فلنتقدّس دومًا بتطهيرنا من وصمة الخطايا”.
لقد وقف كبريانس من معموديّة الهراطقة موقفًا متميّزًا، إذ طالب بإعادة معموديّتهم إذا اهتدوا إلى الكنيسة، غير معترف بمعموديّتهم الأولى على يد أساقفة أو كهنة هراطقة، ومعتبرًا أنّها غير قانونيّة. فيقول: “ليس إلّا معموديّة واحدة، وهي في الكنيسة الجامعة، وتاليًا لا نعيد المعموديّة، بل نعمّد الذين أتوا من ماء زنًى وماء دنيويّة، وعليهم أن يُغسلوا من جديد ويقدَّسوا بماء الخلاص الحقيقيّة. المعموديّة الوحيدة هي عندنا”. ودعا كبريانس إلى معموديّة الأطفال، ذلك أنّ كلّ طفل يولد من أبوين مسيحيّين يولد، تاليًا، في الكنيسة ويُحتضن فيها لينمو في الإيمان.
كبريانس هو أوّلاً راع التزم التزامًا جدّيًّا مهمّته الرعائيّة. وكان واعظًا مقتدرًا، جمَع بين فصاحة اللّغة ولطافة التعابير، فاستطاع أن يبلّغ كلمة الله إلى قومه، المتعلّم منهم والأمّيّ. وفي الختام نورد بعض أقوال قدّيسنا التي هي بمثابة إرشادات روحيّة: “لتكن دومًا بين يدَيك القراءة الإلهيّة وفي فكرك فكرة الربّ، ولا تتوقّف أبدًا عن الصلاة”، “لا يمكن الحفاظ على الوحدة ولا على السلام إذا لم يجتهد الإخوة أن يحافظوا على التسامح المتبادَل وعلى رباط الاتّفاق بواسطة الصبر”، “متى يكون، إذًا، بدون نور مَن كان في قلبه النور الإلهيّ؟ أو متى يفتقد إلى النهار أو إلى الشمس مَن كان المسيح نهاره وشمسه؟”.