ودّعنا، قبل بضعة أيّام، الفصحَ، وما من مرّة ودّعناه، إلاّ اعتصرت قلوبَنا غصّةُ فراقه. بالرغم من أنّ كلّ يوم أحدٍ هو بالفعل عيدٌ للقيامة، فصحٌ صغير، تمتاز الفترة الفصحيّة بنكهة خاصّة من البهجة، بثّتها في العالم قيامةُ المسيح. تعبّر الليتورجيا الأرثوذكسيّة عن الحضور الفصحيّ الكثيف في هذه الفترة بافتتاح الصلوات بنشيد القيامة. المؤمنون يتناغمون والليتورجيا. ثمّة أناس يبكون، حين يودّعون الفصح، وهم على رجاء أن يغمرهم بهاؤه في العام القادم.
بين الصعود والعنصرة، نعيّد لآباء المجمع المسكونيّ النيقاويّ الأوّل، الذين وضعوا من دستور الإيمان جزءه الأوّل، الذي يتكلّم عن ألوهة المسيح. وعن أولئك الآباء خطورةَ ما اضطروا أن يفعلوه. أجبرهم تفشّي بدعة آريوس على أن يضعوا، في قالب التعبير اللغويّ، ما لم يكن، ليُحكى عنه، بل ليُعاش. فالتجسّد والاِنصلاب والقيامة ليست أعمالاً بطوليّة قام بها الربّ يسوع، لتُنسَج حولها الروايات المنمّقة، ويتغنّى بها المنشدون. يسوع لم يأتِ بطلاً تراجيديًّا، ينتزع الخلودَ بعظمة أفعاله، وبأنّه تغلبُ، في بشرته، القوةُ الضعفَ. يسوع المسيح، ابن الله المتجسِّد، قولُ حبِّ الله للإنسان، فِعْلٌ حياتيٌّ، إلهيُّ الجوهر، صار بشريًّا بالحقيقة، وبشكل تامّ، ليكون نموذجَ حياة، يمكن الناسَ أن يحيوها، بنعمة الله وإن شاؤوا.
الصعوبة التي واجهها الآباء، حين صاغوا دستور الإيمان، كانت أنّهم اضطرّوا إلى ضبط فعل الحبّ الإلهيّ غير المحدود بكلمات محدودة القدرة على التعبير، وإلى الكلام على الحياة الإلهيّة بلغة بشريّة. ليقوموا بذلك، بشكل لائق، استندوا، إلى جانب خبرتهم الإيمانيّة، إلى العلوم والمعارف الفلسفيّة التي كانوا يحوزونها في عصرهم. واللاهوت المسيحيّ هاضم للكثير من فلسفة الإغريق. فالمسيحيّة، جوهرًا، ليست منظومة إيديولوجيّة، تنافس المدارس الفكريّة، وتخشى منافستها. المسيحيّة حياة، تنبثّ في كلّ ما يقبلها، فتُمَسحِنه، أي تجعل فيه صورة المسيح.
حين صاغ الآباءُ العقيدة، فعلوا ذلك مُجبَرين. أدركوا أنّهم ينطقون بما لا يُنطَق به، وأنّ لغة البشر ومقولاتهم العقليّة تقصّر، بالطبع، عن وصف فعل الحبّ الإلهيّ الذي أعطي للناس ليحيوا بحسبه، لا ليتكلّموا عنه، وحسب. حين ننطق بدستور الإيمان، علينا أن نعي تمامًا أنّ ما نقوله، لم يَصُغْهُ آباء نيقية سنة ٣٢٥ – وأكملته مجامع تالية، بحسب الحاجة، أي بسبب انتشار البدع – ليقال ويدرَس ويدرَّس، فقط. كلّ هذا حسن، ولا بدّ من القيام به، طالما أنّ البشر يفكّرون ويتساءلون. لكنّ ما ننطق به في دستور الإيمان يحوي ما هو أكثر من ذلك. كلماتُ العقيدة معبرٌ إلى جوهر العقيدة. وليس هذا الجوهر إلا الحبّ الإلهيّ الذي صار بشريًّا ليكون للبشر نموذجًا، كيف يحبّون. وإن أحبّوا، يحيون. العقيدة كلمة حياة، إذا فُهِمت وانعاشت.
الأحد الحاضر، بين الصعود والعنصرة، يدعونا إلى حفظ تراثنا، عقيدة نفهمها أنّها ليست مجرّد تعاليم، نردّدها ونجادل الآخرين مدافعين عنها. هذا ليس إلاّ شيئًا يسيرًا ممّا سلّمه إلينا الآباء. الأهمّ منه بكثير هو أن نعي أنّ جوهر العقيدة هو المسيح الذي انصلب حبًّا بنا، فغلب بذلك الموتَ. وأنّه إنّما وضع لنا بذلك نموذجًا، كيف نحيا، فنصير من أهل السماء. صعود المسيح، بمجد، على الصليب مقدّمة لصعوده، بمجد، إلى السماء. وجهان لنموذج حياة واحدة، أُعطِيت لنا لنحياها. ليس الأمر سهلاً. إلاّ أنّ لدينا قوّة لبسناها، من العلاء، بحلول الروح القدس، الذي ننتظر عيده الأحد القادم.