في قضية “الدياسبورا” الأرثوذكسيّة (1) – المطران سابا (اسبر)
مدخل
يبدو، من مجريات العمل على انعقاد المجمع الأرثوذكسي الكبير، أنّ موضوع “الدياسبورا” سيكون الأهمّ، بمعنى أنّه ليس من موضوع آخر بأهميّته. فأوراق العمل الأخرى، التي تمّ الاتفاق على معظمها، ونظراً للاختلاف الكبير القائم في واقع الكنائس الأرثوذكسيّة، لأسباب لعب التاريخ الدور الأكبر فيها، قد صيغت بالحدّ الأدنى من التوافق، وليس بالمستوى الذي يأمل شعب الله فيه. أمّا قضية “الدياسبورا” فبقيت عالقة، كونها شائكة ومتعدّدة الأبعاد، ولها علاقة صميمة بالكنائس الأمّ. إضافةً إلى الإشكاليّة اللاهوتيّة والكنائسانيّة، للطرح الذي تنادي به كنيسة القسطنطينيّة، والذي ترفضه معظم الكنائس غير الواقعة تحت النفوذ القسطنطيني.
موجز تاريخي
أُطلقت لفظة “الدياسبورا”، و تعني باللغة العربيّة “الشتات”، على الأرثوذكس الذين هاجروا من بلادهم الأصليّة، التي تنتمي إلى إحدى الكنائس المحليّة المستقلّة المعترف بها، إلى بلدان أخرى، لا تقع ضمن الحدود القانونيّة الكنسيّة التاريخيّة، إمّا لعدم وجود أرثوذكس فيها سابقاً، أو لعدم وجودها على الخارطة الجغرافيّة البشريّة، عندما وُضعت القوانين التي نظمت حدود الكنائس.
فقد نشأت الكنائس المسيحيّة، أولاً، في حوض البحر الأبيض المتوسط، في إطار الإمبراطوريّة الرومانيّة. وهكذا تأسّست، حول المدن الرئيسة، مع الوقت، البطريركيّات الخمس القديمة؛ وهي بالترتيب الشَرَفي التقليدي: “روما، القسطنطينيّة، الإسكندريّة، أنطاكيّة، أورشليم”. وبقيت طوال الألف الأولى للمسيحيّة، وما ينوف على ذلك التاريخ، هي المراكز الرئيسة للعالم المسيحي. وقد انطلقت منها البعثات التبشيريّة إلى العالم الواقع خارج حدود الإمبراطوريّة الرومانيّة، التي عُرفت، في الأدب الكنسي، بالمسكونة.
بعد الانشقاق الكبير (1054م)، اقتصر العالم الأرثوذكسي على البطريركيّات الأربع، التي تلي روما. لكن مع تنامي الأرثوذكسيّة وانتشارها، بدأ هذا العالم يشهد ولادة بطريركيّات جديدة، كالروسيّة، والرومانيّة، والبلغاريّة…إلخ. ما أدّى، حتّى الآن، إلى وجود أربع عشرة كنيسة أرثوذكسيّة مستقلّة، في العالم.
حافظت الإكليزيولوجيا الكنسيّة الأرثوذكسيّة على مفهوم الكنيسة المحليّة، ولم تعرف النظام الكنسي المركزي العالمي، كما حصل في روما، بعد الانشقاق، بخاصّة في القرنين الأخيرين. اعتُبر الأرثوذكس القاطنون في البلدان التي تقع خارج حدود الكنائس المحليّة المستقلّة شتاتاً. لكن هؤلاء كثروا وتأصلوا في البلدان الجديدة، بمرور الزمن، من جهة، وما يزالون يتدفقون عليها، حتّى الآن، بأعداد كبيرة، ما يجعل كنائسهم، فيها، تتنامى وتزداد.
سرعان ما لحقت كنائسهم الأمّ بهم، أو لحقوا هم بها، من أجل تأمين خدمتهم الروحيّة. في الحالة الأنطاكيّة، على الأقلّ، استقدم المهاجرون كهنة يعرفونهم، أو كاهن ضيعتهم، ليقيموا الأسرار الإلهيّة لهم. وبمرور الوقت صارت لهم كنائسهم ورعاياهم، التي بقيت مرتبطة بكنائسهم الأمّ.
جدير بالذكر، أنّ الأنطاكيين الذين هاجروا إلى أميركا الشمالية، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانوا، قبل الثورة البلشفيّة، تحت رعاية الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، التي طلبت لهم، من كنيستهم الأمّ، أسقفاً أنطاكيّاً يرعاهم، تحت “أموفوريون” [لباس أسقفي يشير إلى سلطة المطران الرعويّة على أبرشية محددّة] الأبرشيّة الأرثوذكسيّة الروسيّة في أميركا الشماليّة. وهذا ما حصل، وكان أسقفهم آنذاك، القدّيس روفائيل هواويني.
لا يتوافق وضع الأرثوذكسيّين الكنسي الحالي في “الدياسبورا”، الذي بدأ تدبيريّاً، لكنّه صار، الآن، وجوداً راسخاً باقياً ومستمراً، مع المفهوم الأرثوذكسي الكنائساني القانوني. يقول هذا التعليم، على سبيل المثال، بأسقف واحد للمدينة الواحدة، بينما يوجد اليوم أساقفة عديدون في بعض المدن. فهناك الأسقف الأنطاكي للأنطاكيّين، واليوناني لليونان، والروسي للروس،…إلخ.
بدأ أبناء الجيل، الذي هاجر، بمرور السنين، ينخرطون في المجتمع الجديد، ويصيرون أميركان وبرازيليين وأرجنتينيين…إلى ذلك بدأت بعض الكنائس النشطة تستقطب أعداداً، لا يستهان بها، من سكان المهجر، الذين ليسوا من أصول أرثوذكسيّة. أي بدأت بممارسة رسوليّتها، ممّا يُظهِر نضجاً حقيقيّاً فيها.
قضيّة تنظيم الوجود الأرثوذكسيّ في ما كان يُعرف، قديماً، بالمهاجر، ويُسمى الآن بلدان الانتشار، مطروحة منذ زمن، وثمّة رؤىً عديدة حولها. إنّها قضيّة شائكة، خاصّة مع تجدّد أمواج الهجرة، بعد انهيار النظام الشيوعي، الذي ساد في كثير من البلدان الأرثوذكسيّة. وكذلك عودة هجرة اليونانيّين والأنطاكيّين إلى التجدّد، في السنين الأخيرة، بسبب الحربين اللبنانيّة والسوريّة، والانهيار الاقتصادي في اليونان.
القضيّة المطروحة
ثمّة جدال كبير، بين الكنائس، حول النظريّة التي تتبنّاها كنيسة القسطنطينيّة، والتي تستند إلى تفسير خاصّ للقانون 28 من المجمع المسكوني الرابع، الذي يعتبر المسكونة مقتصرة على الإمبراطوريّة الرومانيّة، بينما يعتبر من هم خارجها متخلّفين. كانت سائدة في القرن الرابع، حينما اقتصر مفهوم “المسكونة” على الإمبراطوريّة الرومانيّة، لأنّها اعتُبرت مركز الحضارة.
تعتبر “القسطنطينيّة”، بموجب هذا التفسير، نفسها المسؤول الوحيد عن رعاية كلّ من هم خارج حدود الكنائس المحليّة المستقلّة. وهذا ما ترفضه الكنائس الأخرى، ما عدا التي، لاعتبارت خاصّة، لا تستطيع مخالفة بطريركيّة القسطنطينيّة في هذا الأمر. مع العلم أنّ كنيسة “القسطنطينيّة” ترعى، حاليّاً، جميع الأرثوذكس الناطقين باليونانيّة، والموجودين خارج بلاد اليونان وقبرص أساساً.
الكنيسة الأرثوذكسية كنيسة جامعة، كما يقول دستور الإيمان، وقد رفض آباؤها، المجتمعون في القسطنطينيّة، في القرن الثامن عشر، المبدأ المعروف ب”الفيليتزم”، أي خضوع الكنيسة للعرقيّة أو القوميّات.
وتقول الإكليزيولوجيا الأرثوذكسيّة بالكنيسة المحليّة، التي قد لا يرى الكثيرون أنّ كلّ كنائس المهاجر أو “الدياسبورا” قد وصلت إلى النضج، الذي يسمح لها بأن تصير كنائس محليّة مستقلّة، خاصّة بعد تجدّد أمواج الهجرة، أو ظاهرة الانتقال من بلد إلى آخر، في العقدين الأخيرين.
ماذا نفعل إزاء ظاهرة كنائسيّة واقعيّة مخالِفة؟ وكذلك إزاء موقف كنيسة أو أكثر، مبني على مفهوم النفوذ الدهري، ويتمّ السعي إليه، كلاماً وعملاً، ويُسبّب لغطاً وتشويشاً، بالإضافة إلى أنّه يعيق التواصل والشركة، المطلوبيَن من كافّة الكنائس. كما أنّ عودة الكنائس التي كانت في منظومة الدول الشيوعيّة، إلى الفعاليّة والنمو والنفوذ، أضاف بُعداً جديداً للمشكلة، بحيث ساهم الواقع الجديد، في إحياء الصراع اليوناني – الروسي، ضمن العالم الأرثوذكسي.
04 نيسان 2016