رينيه أنطون، حركيّ من الميناء أجرت المقابلة ميسون حدّاد من مركز دمشق في البدء كان الكلمة. كيف كلّمك “الكلمة” في البدء، في الميناء؟ ربّما كلّمني بخفرٍ شديد، وباللغة التي أفهمها وأنا طفل. ذلك حين كنت في نحو الثامنة من العمر وعبرَ طفل جار، رفيق لَعِبٍ في الحارة، يكبرني بعامين. كان يلفتني “فولاره” الكشفيّ كلّ أحد ما دعانا، شقيقي الأكبر وأنا، إلى مرافقته يومًا الى منظّمات الطفولة في مدرسة مار إلياس – الميناء. لم أكن يومًا تلميذ هذه المدرسة، إلاّ أنّ شيئًا منها ترسّخ فيّ من تلك الفترة حتّى اليوم. هو ممرّ مبناها القديم الذي حين دخلته للمرّة الأولى كانت تركن فيه سيّدة في العقد السادس من العمر.كان المرور بهذه السيّدة الزاميًّا لكلّ منتسب جديد للحصول على اللوازم الكشفيّة. لم أدر، حينها، أنّ هذا المرور سيكون يوميًّا ومكثّفًا لفترة طويلة في مسار التزامي الحركيّ، وأنّ كرسيها سيعتلي مكانة متقدّمة في كياني، وأنّ منها سأكتسب، إضافةً إلى ما احتجت إليه من اللوازم الكشفيّة مجّانًا، أهمّ ما تربّيت عليه في الحركة من حسّ التزام وقواعد وسلوك.
|
طيلة فترة طفولتنا ومراهقتنا كانت رمزة مروة أو “المدام”، بنظرتها المؤنِّبة لنا، مربّيتنا الحركيّة الأولى. وبسبب حضوري المكثّف، والمسؤوليّات المحلّيّة في الفرع، التي تحمّلتها خلال مطلع شبابي، توطّدت العلاقة والثقة مع هذه السيّدة. هنا يجب أن أذكر أنّ إصرار “المدام” التي كانت تتقن اللغة الفرنسيّة من دون قراءة العربيّة، على أن أقرأ لها منتصف كلّ أسبوع مقالة المطران جورج (خضر) في جريدة النهار المعلّقة على لوحة الإعلانات في بيت الحركة، رغم عدم فهمي لمضمونها يومَها، كان هو مدخلي إلى قراءة كتابات المطران جورج وكتبه بشكل منتظم. في منظّمات الطفولة لم يجذبني غير أمرين، اللعب مع الرفاق بعد انتهاء “التوجيه”، وقصّة عيد الميلاد واحتفالاته. انحصر ما حفظته من تعليم تلك المرحلة بهذه القصّة وأبطالها، المغارة ويوسف ومريم وتواضع الطفل يسوع والرعاة والمجوس وهداياهم. لكنّها لم تتخطّ، في داخلي، كونها حكاية جميلة. أمّا ما هي العلاقة بين ميلاد يسوع ومحبّة الله لنا، وكيف خلّصنا المسيح وهو على الصليب، ولماذا، إذا كان يحبّنا، تخافه أمّي وتصلّي وتشعل البخور أمام الأيقونة كلّ ليلة، وتدعونا إلى الصلاة إليه كيلا يُصيبنا بمرض أو مكروه، فبقيت تساؤلات لم أجد لها أجوبةً شافية إلاّ في مراحل متأخّرة، بدأت خلالها بالتعرّف إلى الأخ كوستي بندلي، وتدرّجت في الاطّلاع على فكره وفهم الأحداث الخلاصيّة. تقطّع التزامي تلك الفترة وثبت في مرحلة السنة الثانية أو الثالثة من الاستعداديّين بسبب تأثّري الشديد بمرشد فرقتنا حينها. كان مرشدنا ذاكي تاجر، رحمه الله، شخصًا وديعًا، قليل الكلام، مصلّيًا، قارئًا نهمًا، وكان يعمل ويتابع دراسته الجامعيّة في آن. شدّتني إليه أمور عدّة معًا. معرفته وثقافته والتزامه المشترَك مع من أمست، لاحقًا، مرشدتي وزوجته. إلاّ أنّ الأهمّ منها كان اهتمامه بجوانب حياتي الشخصيّة وسعيه إلى إقامة صداقة عميقة معي رغم فارق العمر. صداقة تحاورنا فيها وترافقنا بالصلوات الطقسيّة والأنشطة الثقافيّة والأفلام السينمائيّة، وكانت حافزًا لأبدأ بمطالعة الكتاب المقدّس وبعض كتب “النور”، ومُساعدًا لي على اكتساب الثقة بالنفس، خصوصًا وسط الأحوال الاجتماعيّة الصعبة التي كنّا نعيشها. يقيني أنّي في تلك المرحلة بدأت، شيئًا فشيئًا، السعي الى يسوع رغم المراهقة التي رافقت هذا السعي.
أنت ابن فرع الميناء، ماذا يعني أن تنشأ في فرع حركيّ فيه زخم الكبار، كسيّدنا بولس (بندلي) وكوستي بندلي وسيّدنا جورج (خضر)…. حدّثنا عن البصمة التي تركوها نمت علاقتي بالمطران بولس (بندلي) مع كلّ نموّ لي.كلّ ما فيه كان يعرّفني بالربّ ويقودني إليه. عايشته أبًا روحيًّا، مرافقًا للقاءاتنا، كاهن رعيّة، قائدًا أنشطة رعائية ومؤسّس رعايا وفروع حركيّة، مسؤول إرشاد، وكيل أسقف، وأسقف. وكان، أيضًا، يخدم اللقاءات الصلاتيّة ويمارس الإدارة والتعليم المدرسي والجامعيّ، وينشد، في كلّ هذه المهمّات، ما كنّا نعتقد أنّه يستحيل على أيّ إنسان. أُنعم عليّ بأن أشاركه، لفترات، بعض أطر الخدم الإرشاديّة والرعائيّة، وكنت كلّما اقتربت منه كُشف لي المزيد من ضعفاتي وبرز، هو، أمامي حالةً يصعب عليّ فهمها. الوداعة الشديدة والصبر الكبير والتعب الذي يصعب على أيّ أمرئ تحمّله، ومعهم إصرار على جمع معظم هذه المهمّات في فترة واحدة، وعلى المشاركة في كلّ اجتماع، وإن اقتضى الأمر أن ننتظر وصوله، أحيانًا، كثيرًا من الوقت. إلى جانب هذا أذهلني، فيه، اختياره، بكامل إرادته، الفَقر الشديد في كلّ مراحل تكرّسه وشغفه بالفقراء، وحكاياته، التي لا تُصدّق، معهم والتي تعكس تخلّيه الكامل عمّا يقتني أو يملك. جسّد المطران بولس أمامي كيف ينقص الإنسان، بفرح، ليزيد المسيح. هذا ما أبقى وجهه محفورًا في ضميري وكذلك حدثَ رقاده الذي جرحني كثيرًا تلك الليلة. أذكر، بعد تلقيّ الخبر من الأخ حنّا حنّا تلك الليلة توجّهنا الأخ إبراهيم رزق وأنا، وكنّا في أسى شديد، كلّ من منزله إلى دار المطرانيّة في عكّار. طيلة الطريق جمعتنا مكالمة هاتفيّة بكينا فيها معًا واستذكرنا أحداثًا معه وعدّدنا مآثره وتأثيره فينا وانتهينا إلى توصيفه أنّه كان إنجيلاً سارَ أمامنا إلى حيث صار قدّيسًا يرعى حياتنا من فوق، وأنّ كنيستنا ستكون، بغيابه الجسديّ عنها، مختلفةً عمّا كانت عليه بحضوره فيها. الأخ كوستي بندلي قامة ما زالت تحضر أمام وجهي في كلّ مناسبة، خصوصًا حين أقف على شرفة منزلي وأنظر إلى البحر المقابل. ذكر مرّة أمامي، وهو في مرحلة متقدّمة من ربّما أن قبلة تأثيره فيّ أن بمرافقته انقلبت مفاهيمي وعلاقتي بالله من علاقة خوف إلى حبّ وحرّيّة، فدُفن في ذهني ذلك الإله المرعب وحلّ مكانه، في قلبي، مشهدُ يسوع المسيح على الصليب، وأنّ معه عرفت الإيمان أوسع من التديّن بين جدران الكنائس والمؤسّسات الدينيّة، وعشت يسوع أرحب من كلّ طقس وتعريف وتحديد بشريّ له، وأنّ بمرافقته سَهُل عليّ الخروج من الراحة الذاتيّة إلى تعب لقاء الآخر، وصادقت قضايا العدالة وتحرّرت من أسر الطائفيّة، وعرفت المطالعة وبعض الكتابة. ويبقى أنّ به شهدت كيف يكون “الأوّل آخرَ والآخر أوّلاً”. لكن رغم حضوره هذا في حياتي، النافر والخفر في آن، عجزت في كثير من الأحيان عن أن أجاريه ثورته وجرأته الإنجيليّة. وربّما كان هذا بسبب أنّ محبّتي للربّ لا تجاري محبّته. ختامًا، حول تأثير الكبار، أقول إنّنا نُخطئ الظنّ إن اعتقدنا أنّ سرّهم وسحرهم يكمنان في قدراتهم الإنسانيّة والفكريّة، لأنهّما، في حقيقة الأمر، يكمنان في عشقهم النادر ليسوع المسيح، والذي منه وُلد إبداعهم. ومثال أخير على ذلك، أنّه كلّما كنت أتفّقد الأخ كوستي وهو في مرضه وذروة ألمه كان يسبقني في الاطمئنان عن أحوالي الشخصيّة، ويغدق عليّ بكثير من الدعاء، وكلّما كبرت معاناته وزاد ألمه زادت صلاته. واستمرّ بذلك حتّى أيّامه الأخيرة، ما أشار إليّ أنّه ثبت في صداقته ليسوع في ظلّ أقسى التجارب حتّى اللحظة الأخيرة. الأخ رينه أنطون أمينًا عامًّا للحركة لثماني سنوات متتالية، ولسنتين أخريين من بعدها. هل كان هذا خيار الموهبة التي أعطيت؟ كيف تقوّم هذه التجربة على الصعيدين الشخصيّ والحركيّ؟ السؤال لا ينفصل فيه الشخصيّ عن الحركيّ. هي تجربة قفزت بحياتي، على الأصعدة كافّة، من مكان إلى آخر. أحسّست نفسي مغمورًا باحتضان الأخوة وثقتهم. هذا أمر ليس ما هي أهمّ التحدّيات التي واجهتها وما هي، بنظرك، مواطن القوّة والضعف في الوضع الحركيّ العامّ؟ طبعًا كثيرة جدًّا هي، لكن، اختصارًا أذكر الثلاثة الأهمّ منها. التحدّي الأوّل هو صون الوحدة الحركيّة في ظلّ التوسّع الجغرافيّ والعدديّ للحركة. وهذا شأن لطالما رأيته مترابطًا مع إعادة الفعاليّة التربويّة إلى الإرشاد الحركيّ. هذا تحدٍّ دائم وما سعينا إليه هو أن نساعد المراكز على هذا الصعيد، أكان عبر تكثيف أنشطة الأمانة العامّة وحلقاتها والبحث عن إطلاق مبادرات جديدة في هذا الإطار، أم عبر السعي إلى لقاءات مباشرة مع الشرائح الحركيّة قدر ما أمكن. إضافةً إلى هذا سعيت، من دون فلاح أكثر الأحيان، إلى ألاّ ندع وطأة الوجه المؤسّساتيّ للحركة تضرّ بالعمل الإرشاديّ، فرجوت دائمًا، وما زلت، أن نعود إلى بناء الفرق الحركيّة بما يتماشى مع الطاقات الإرشاديّة المؤهّلة الموجودة لدينا، وليس بما يتماشى مع متطلّبات الشكل المؤسّساتيّ والتنظيم. الثالث هو صون الحركيّين، وتاليًا الحركة، من السقوط في حالة التشدّد والانغلاق، وتفعيل روح الانفتاح فيها، خصوصًا في ظلّ ما نشهده من تنامي هذه الحالة في الوسط الكنسيّ. وهذا شأن يصبّ أساسًا، ويترابط مع استقامة العمل الإرشاديّ وما ذكرته سابقًا على هذا الصعيد. وللمناسبة لطالما شدّدت، في هذا السياق، على أنّ الانتماء إلى الحركة إنمّا هو انتماء إلى مبادئ قائمة وتراث موجود وخبرة معيوشة، وهذه كلّها وجدت من خبرة الكنيسة وفكر الإنجيل. فلا يستطيع أحد أن يوجد في الحركة وينتمي إلى غير ما تقول به مبادئها وما خطّه تراثها، هذا لا يستقيم انتماؤه. حدّثنا عن التكريس، وبخاصّة عن تكريس المتزوّجين انطلاقًا من خبرتك الشخصيّة: تبدأ انطلاقة الإنسان في التكريس بإقراره أنّه، من دون الله، لا شيء لأنّه من دون القيامة بالربّ لا حياة. بهذا الإقرار ينطلق سعيه إلى أن يشخص إلى الربّ ويقتني فكر الإنجيل من دون أن يغريه أمرٌ غير فضائل المسيح. نحن في هذا السعي، متبتّلين أو متزوّجين كنّا، وكلّ من واقعه الحياتيّ. طبعًا ليس سهلاً على من يحيا الحياة المدنيّة أن يثبت في هذا السعي من أظهرت الأزمة السوريّة انعكاسات لا نزال نتلمّس نتائجها إلى اليوم، من مآس وهجرة وتداعيات اقتصاديّة. قمت بتأسيس هيئة الطوارئ الاجتماعيّة. كيف تقوّم عمل هذه الهيئة حتّى اليوم وهل من خطوات أخرى اتّخذتها الحركة؟ يومَ بادرنا إلى تأسيس هيئة الطوارئ كان يشغلنا همّ واحد، هو دعم الأخوة، ومعهم المحتاجين، في سورية والتعاضد معهم في ما يساعدهم على الثبات في الأرض والخدمة والالتزام. طبعًا، ومع الأسف الشديد، تفاقمت الأزمة السوريّة بشكل مؤلم وخطير، وكبرت تداعياتها بشكل يفوق طاقة الدول وليس الجماعات وحسب. ما أقدمت عليه الحركة وما أنجزته هيئة الطوارئ إلى اليوم أمرٌ يفرح القلب ولا يستطيع أمرؤ أن يقلّل من أهمّيّته وآثاره الإيجابيّة. وقد استمعنا إلى الأخوة في سورية، في أكثر من مؤتمر، عمّا كان لتقديمات هيئة كيف نذهب إلى علاقة أكثر فعالية في العمل الرعائيّ بين المراكز الحركيّة والرعاة؟ يقتضي هذا الموضوع، اليوم، نُضجًا رعائيًّا قد يكون مفتقدًا هنا وهناك. يؤلمني جدًّا المشهد العامّ لكنائسنا اليوم. نسبة المصلّين، والمهتمّين بحياة الكنيسة، لا تتعدّى الثمانية في المئة في أحسن الأمكنة والأحوال، ونسبة الشباب ضمنهم لا تتعدّى العشرة في المئة، ونسبة المتقدّمين في العمر منهم تفوق النصف. هذا أمرٌ مقلق ويطرح على ضمائرنا، آباء وأبناء، سؤالاً مصيريًّا. أيمكن لكنيستنا، بهذا الواقع، أن تواجه الغد. هذا هو الأمر الذي يجب أن يشغلنا جميعًا، وبشكل أساس يجب أن يشغل الرعاة. من جهة الحركة أقرّ أنّ أعضاءنا لا يولون الشأن الرعائيّ الأهمّيّة التي أولاها له فكرنا وتراثنا. ومن جهة الرعاة ما زلنا نفتقد إلى الرعاية التقليديّة كالزيارات والسهرات الرعائيّة وافتقاد المرضى وما إلى ذلك. هذا علمًا أنّ كلمة أخيرة أخ رينه؟ أشكرك وأشكر المجلّة على هذا اللقاء. رجائي، الدائم، أن يقوّينا الله جميعًا وينمّينا في خدمة الكنيسة والأخوة، وأن نعاين الروح يبرز أكثر وأكثر في الحركة، والفقراء يحتلّون مكانتهم الإنجيليّة في الكنيسة، وفي كلّ منّا ليفرح يسوع بكنيسته وبنا نحن الأبناء.
|