نُشر في مجلّة النّور، العدد الأوّل، 2010، وأيضًا جُمع مع غيره من مقالات للكاتب في كتاب نشرته تعاونيّة النّور بعنوان “وكان صمتهم كلامًا كثيرًا“ في آذار 2015 |
كنّا قد بلغنا صيف العام 662، حين زرتُه في زنزانته. قيظ تمّوز يفتك بسواحل البحر الأسود. وقرص الشمس المعتزّ بسلطانه يسفح أشعّته على جدران قلعة شيماريس العسكريّة، حيث كان مسجونًا. كانت الزنزانة أشبه بقلالي الرهبان، شبه مظلمة وخالية إلاّ من أشياء ضروريّة جدًّا. وكانت فيها طاولة نُثرت عليها بعض الكتب. فتح السجّان السمين الباب الحديديّ المتآكل بالصدأ من غير أن ينبس ببنت شفة. فدخلتُ الغرفة الضيّقة الحارّة مثل فأر يندسّ في جحره من شدّة الخوف. كان الرجل يجلس إلى كتبه صامتًا. لم يظهر أنّه استغرب وجودي.
«اسمي ديميتريوس، أيّها الشيخ، وأحمل لك رسائل من بعض أصدقائك في المدينة المتملّكة. ضابط القلعة ليس لطيفًا. فأنا في بلاد اللازيك منذ يومين انتظر مقابلتك، وهو يماطلني. لكنّي أحمل أمرًا خطيًّا من القسطنطينيّة يسمح لي بمقابلتك وتسليمك الرسائل. الأمر ممهور بختم الفسيلفس شخصيًّا. فأحد أخوالي يعمل في جناح جلالته، والملك كونستانس يكنّ له الكثير من المودّة. لم يكن الحصول على توقيع إمبراطور الروم بالأمر السهل. لكنّ إصرار ثيوذوروس لم يترك لي وسيلةً أُخرى إلاّ الاستنجاد بخالي الذي ساعدني على مضض».
«أنت تعرف ثيوذوروس سبوذايوس، أيّها الكريم»؟
«إنّه صديق لي، أيّها الشيخ».
«وما هي أخباره وأخبار القسطنطينيّة؟»
«القصر يضيّق على كلّ من ينتصر لأفكارك. لذا، غالبًا ما يضطرّ ثيوذوروس إلى ملازمة البيت والاكتفاء بتدبيج الرسائل، لئلاّ يُتّهم بأنّه يقوم بحركات مشبوهة ضدّ السياسة الملكيّة. أمّا توزيع هذه الرسائل، فيتولاّه من كان مثلي غير معنيّ بالموضوع. لكنّ الضغط على أنصارك لا يبلغ حدًّا لا يطاق. فالقوم، في العاصمة، لديهم انشغالات أُخرى. ثمّة ضائقة ماليّة خانقة بسبب الحروب في الشرق مع العرب. وسقوط مصر بيد القبائل الزاحفة من الصحراء يحرم المملكة من مورد القمح الأساسيّ. كذلك، ثمّة إشاعات أنّ ملك الروم ينوي نقل مكان إقامته إلى جزيرة صقليّة، لأنّ القسطنطينيّة باتت مهدّدة».
«إنّه لا يزال يتصرّف كأنّ اللَّه أقامه ملكًا لا على الشؤون الدنيويّة فحسب، بل على الشؤون الدينيّة أيضًا. ويحتسب أنّ البتّ في الأُمور الإلهيّة إنّما يقع ضمن نطاق صلاحيّته. إنّه، حتّى اليوم، لم يتعلّم من تجربة جدّه هرقل. لقد هزم هرقل الفرس. فتجبّر، وطغى. ثمّ سوّلت له نفسه أنّه يستطيع استرضاء رافضي مجمع خلقيدونية في مصر وسوريّا وأرمينيا برأي فاسد يقول بفعل واحد ومشيئة واحدة في ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح، بحيث تصبح الطبيعة البشريّة وجودًا صوريًّا خاليًا من الإرادة. ولقد عاونه، في ذلك، بطريرك القسطنطينيّة سرجيوس مسخّرًا، في سبيل التعليم الجديد، كلّ حذقه البشريّ وسلطانه الأُسقفيّ، حتّى إنّه كاد يخدع البابا الرومانيّ هونوريوس. فأرسل اللَّه القبائل العربيّة المتوحّشة تعيث فسادًا في الشرق وفي إفريقيا. غير أنّ كونستانس لم يتّعظ. إنّ ما يحدث في المملكة اليوم إنّما هو عقاب اللَّه على خطايانا وانسياقنا وراء تعاليم مغلوطة».
«ولكن، يا أبتِ، كيف السبيل إلى معرفة الحقّ؟ إنّ خصومك أيضًا يحتجّون بالكتب الإلهيّة، ويقتبسون من مؤلّفات آباء الكنيسة. وهم اليوم، على ما يبدو، قد أضحوا في وئام مع الكرسيّ الرومانيّ الذي صار يقول قولهم، أو أنّه، على الأقلّ، لا يعترض عليهم».
«أنا لست كاهنًا، أيّها العزيز. والربّ لم يؤهّلني لخدمة مذبحه والقبض على جسده المحيي بيدي الدنستين. أنا مجرّد راهب أُمّيّ. فأرجوك ألاّ تناديني مستخدمًا كلمة أب».
«لكن، يا سيّدي، هذا لا يغيّر من طبيعة السؤال».
«لقد دعم الكرسيّ الرومانيّ حقّ الإنجيل طوال السنين الماضية. فإذا تلكّأ اليوم، فلربّما يكون هذا سببه الخوف وضغط السياسة الملكيّة. ولا غرو! فلقد خلع كونستانوس البابا مرتينوس الأمين على التعليم النقيّ عن عرشه الأُسقفيّ، ثمّ أرسله إلى النفي، وتسبّب في موته. في نهاية المطاف، الحقيقة لا تلتصق بالأمكنة والبشر، بل البشر والأمكنة يلتصقون بها. نحن نجتهد في إظهارها بالاستناد إلى الكتب المقدّسة وما دبّجه الآباء الموقّرون. لكنّ اللَّه هو من يعزّزهـا ويشـدّ أزرها في أوقات وأمكـنة لا يعرفها سواه».
«وكيــف تعــرف، أيّها الشيخ الفاضل، أنّك عـلى حــق»؟
«أُنظر إلى هذه الطاولة. للأسف، أخذ الجند معظم كتبي ولم يتركوا لي سوى القليل. ولكن، حين كنتُ في قرطاجة وروما، قبل القبض عليّ، نقّبتُ في الكتب المقدّسة وما وضعه الآباء القدّيسون من مصنّفات، واكتشفتُ، مثلاً، أنّ كلمة اعتقاد (غنومي) ترد في ثمانية وعشرين معنى مختلفًا. الاقتباس من الكتاب الكريم والآباء الأجلاّء ليس كافيًا. علينا التثبّت من معنى الكلمات الواردة في الكتب المقدّسة، لئلاّ يصار إلى سوء استخدامها. أمّا القول بالمشيئتين والفعلين في المسيح، فيشهد عليه العقل السليم أوّلاً، إذ فلاسفة الإغريق يعرفون أنّ الفعل يرتبط بالطبيعة. فإذا كان يسوع من طبيعتين، كان أيضًا ذا فعلين. وهذا أكّده المخلّص نفسه على جبل الزيتون، حين قال لأبيه: لا تكن مشيئتي، بل مشيئتك. لا يُعقل أنّ تكون مشيئة المخلّص التي يشير إليها هي مشيئته الإلهيّة، فهذه هي نفسها مشيئة الآب. المخلّص، إذًا، كيان واحد من طبيعتين، إلهيّة وبشريّة. وكلّ طبيعة تتمتّع بفعل وإرادة خاصّين بها. ولكنّ هذا لا يؤدّي إلى انفصام، لأنّ الفاعل والمريد هو المخلّص نفسه، الذي يريد بمشيئته البشريّة ما تريده مشيئته الإلهيّة. وهذا معنى قوله على الجبل: لا تكن مشيئتي، بل مشيئتك».
كان الشيخ يتكلّم بحماسة. لكنّ الحماسة لم تحدوه على فقدان هدوئه قيد أنملة. والأهمّ أنّه كان يتكلّم كمن له سلطان رغم كونه سجينًا مطروحًا في زنزانة لا تليق بمن كان طاعنًا في السنّ مثله. كان يتكلّم كمن تأصّل في الكتب وقضى حياته يعاشر مؤلّفات الآباء حتّى تمثّلها تمثّل الرضيع لبن أُمّه.
«أيّها الشيخ الجليل، يأخذون عليك في العاصمة الملكيّة أنّك تكره البيزنطيّين وتحبّ اللاتين. وبعضهم يتهكّم عليك قائلاً إنّ هذا ليس بمستغرب. فأنت تحمل، في الرهبنة، اسمًا لاتينيّ الأصل. حتّى إنّي سمعت قومًا يزعمون أنّك ابن زنًى، وأنّ لا أحد يعرف أصول عائلتك. فبعضهم يقول إنّك قسطنطينيّ الأصل، وبعضهم يعزو منشأك إلى نواحي سوريّا».
«وما علاقة أُصول عائلتي بحقيقة ما أُعلِّم؟ أما قلتُ لك إنّ الحقّ لا يلتصق بالأمكنة والأزمنة والبشر، بل نحن من نلتصق به، كائنًا ما كان منشؤنا؟ ومن ثمّ، أنا لا أكره أحدًا. حتّى الملك كونستانس نفسه، الذي زجّني في السجن وما برح ينقلني، كالطريدة الميتة، من منفى إلى آخر ومن قلعة إلى أُخرى، لا أكرهه البتّة، بل أُشفق عليه وأُصلّي إلى اللَّه أن يرحمه. وأنا أُحبّ اللاتين، لأنّهم على الإيمان المستقيم، إيمان الكتب المقدّسة والآباء الموقّرين. وأُحبّ البيزنطيّين لأنّهم بنو لغتي».
«ولكن، يا سيّدي، أما تعرف أنّ اللاتين، بمن فيهم بعض البابوات، انحرفوا عن إيمان الدستور القويم، وباتوا يقولون بأنّ الروح القدس منبثق من الآب والابن معًا«؟
«إنّ أحبار الكرسيّ الرومانيّ يعرفون تمامًا، كما تعلّمنا من الكتب المقدّسة ومن باسيليوس وغريغوريوس وكيرلّس، أنّ كلاًّ من الابن والروح القدس يصدر من الآب وحده، الأوّل بالولادة والثاني بالانبثاق، وأنّ الابن ليس مصدر الروح بأيّ حال من الأحوال. أمّا قول اللاتين، في بعض نصوصهم، إنّ الروح يصدر من الابن أيضًا، فمعناه أنّ الروح يخرج من الآب بالابن، أي أنّ اللَّه يغدقه على المؤمنين بواسطة الابن، ومن ثمّ أنّ الروح يتساوى مع الابن من حيث طبيعته الإلهيّة».
«لقد حان موعد رحيلي، أيّها الشيخ. ولا بدّ أنّ السجّان ممتعـض الآن، لأنّي أصـرف الوقـت في حضرتــك عوضًا من المسارعة إلى تسليمك الرسائل التي حملتُها من القسـطنطـينـيّة. فأرجــو منــك أن تستــلم الأمانــة، وأن تتقبّل أدعية صديقي ثيوذوروس الذي كلّفني بالمثول أمامك».
«شكرًا، أيّها الكريم. ألا رافقك اللَّه في درب عودتك وحماك من مخاطر السفر. أتمنّى عليك أن تنقل سلامي إلى العزيز ثيوذوروس».
هممتُ بالخروج. لكنّي سرعان ما وجدتُ نفسي ألتفتُ إلى الشيخ، وأُبادره قائلاً:
«هل لي بسؤال أخير، يا سيّدي»؟
«هات ما عندك، أيّها الكريم».
«ثمّة إشاعات تسري بين الجنود في القلعة أنّ الفسيلفس سيأمر قريبًا بقطع لسانك».
حدّق الشيخ في أرض زنزانته برهةً، ثمّ رفع رأسه، وقال: «مكتوب في سفر أشعياء: آتاني السيّد الربّ لسان تلميذ يبعث كلمةً لأعرف أن أسند المعيي« (إشعياء 50/4). ثمّ إنّ بعض فضيلة الحياة الرهبنيّة، يا بنيّ، يكمن في الصمت. وقطعُ لساني، إذا كانت هذه مشيئة اللَّه، سيؤدّبني، ولا ريب، على الصمت. الحقّ أنّي صمتُّ معظم السنين الخمسين الأُولى من حياتي. لكنّ تفشّي الآراء المنحرفة، وموت صفرونيوس، أبي في الرهبنة الذي صار، في ما بعد، بطريركًا على أُورشليم، اضطرّاني إلى الكلام والكتابة. لولا ذلك، لكنتُ بقيتُ صامتًا».
«وهم يزعمون، كذلك، أنّ أمرًا سيصدر عن قرب بقطع يدك اليمنى».
«لقد كتبتُ كلّ ما عندي، ولا أحتاج إلى يدي اليمنى من بعد».
كانت هذه كلمات الشيخ الأخيرة إليّ. وكانت هذه هي المرّة الوحيدة التي ألتقيه فيها، رغم أنّي كنتُ قد سمعتُ الكثير عن حكمته ومعرفته اللاهوتيّة. بعد عودتي إلى القسطنطينيّة بحوالى الشهر، أصدر ملك الروم كونستانس أمرًا بقطع لسان الشيخ ويده اليمنى. وكان أحد تلامذته الرهبان، ويدعى أناسطاسيوس، قد لقي المصير ذاته. ثمّ تعرّض أنصار الشيخ القلائل في القسطنطينيّة لاضطهاد عنيف.
قضى الشيخ نحبه يوم السبت الواقع فيه الثالث عشر من شهر آب. وزعم بعضهم أنّهم شاهدوا نورًا على قبره. بعد موته بنحو ثماني عشرة سنة، وكان الملك كونستانس قد مات بدوره، عُقد مجمع في المدينة الملكيّة كرّس القول بالفعلين والمشيئتين في المسيح، وهذا هو التعليم الذي جاهد سجين قلعة شيماريس في سبيله طوال حياته. لكنّ آباء المجمع لم يأتوا على ذكر الشيخ الراهب بأيّ كلمة تشير إلى أنّه صاحب هذا التعليم والمدافع الأوّل عنه، كأنّهم أرادوا ألاّ يخرج مكسيموس المعترف عن قاعدة الصمت الرهبانيّة التي أحبّها وخالفها مرغمًا، حتّى بعد موته.
أسعد قطّان